الجزائر
"الشروق" تقضي يوما في حمر العين وسكان سيدي الكبير يصرخون:

ابحثوا عن الكوليرا بعيدا عنا!

إيمان كيموش
  • 5004
  • 8
يونس أوبعيش

وسط بلدية حمر العين في ولاية تيبازة، وعلى بعد أمتار من مصب الحنفيات الثلاث المزوّدة بالمياه المعدنية المنهمرة من أعلى جبل سيدي لكبير، تعاني 43 عائلة جزائرية في صمت منذ أزيد من ربع قرن، فهنالك يتحدث السكان عن كل شيء ويشتكون من أي شيء إلا “شبح الكوليرا”، بل وتجدهم يصرخون: “ابحثوا عن الوباء بعيدا.. فلا وجود له وسط 30 ألف قاطن”.
على ضفاف الوادي، يعيش فلاحون ونساء وأطفال بمساكن فوضوية قصديرية، والبعض الآخر اختار البقاء على محيط المنبع، ومنهم من قدم إلى دوّار سيدي الكبير منتصف سنوات السبعينيات، وآخرون اضطروا إلى النزول من الجبل سنوات التسعينات خوفا من بطش أيادي الإرهاب.
هذه العائلات فضّلت البقاء بالقرب من منبع سيدي الكبير، الذي يقصده عشرات آلاف الجزائريين من مختلف ولايات الوطن بحثا عن المياه المعدنية النقية والصحية، على أمل أن تتذكرهم السلطات، وتشملهم حملات الترحيل وعمليات الإسكان المتتالية التي شهدتها مختلف ولايات الوطن، إلا أن هذا الحلم لم ير طريقه إلى النور حتى اليوم، ليجد هؤلاء أنفسهم بين ليلة وضحاها محاصرين بكابوس وباء انقرض في العصور الوسطى، اسمه “الكوليرا”!

لا إصابات وسط 30 ألف قاطن يستهلكون مياه المنبع يوميا

بمجرد دخول بلدية حمر العين لولاية تيبازة، والبحث عن منبع سيدي الكبير، تفاجأنا بغضب القاطنين المعبّرين عن سخطهم من إقدام السلطات الولائية والبلدية على غلقه قبل 5 أيام، وتغطية المصدر باستعمال الخشب والحجارة والطين، بل ويرفضون جملة وتفصيلا فكرة أن هذا المصدر، وراء انتشار وباء الكوليرا الذي بلغت نسبة الإصابة به أزيد من 173 حالة مشتبه فيها و62 إصابة، مؤكدة وفاتين.
وتساءل أحد القاطنين بدوّار سيدي الكبير “لماذا لم يتم تسجيل أي حالة إصابة بالدوّار الذي يقطنه 30 ألف جزائري، رغم أننا جميعا نشرب الماء كل صباح من حنفية المنبع ونستحم بهذا المورد ونستعمله في الطبخ والأكل والشرب والغسل، فنحن لا نملك المال لشرب المياه المعدنية المعلبة مثلما يفعله الأثرياء، ولكننا لسنا مصابين”.
وانتفض السكان ضد قرار السلطات بغلق المنبع، قائلين في لقاء مع “الشروق”: “كان سيدي الكبير وراء نشر الحركة والحيوية بهذا الدوار المعزول والمهمش منذ نصف قرن، ولكن بقرار غلقه قضيتم على كافة أحلامنا، حطمتم تجارتنا وأفلستم فلاحينا الذين باتوا عاجزين حتى عن بيع كيلوغرام واحد من البطيخ، بحجة أن الناس يخافون الكوليرا”.
وطالب هؤلاء بأدلة رسمية تثبت أن المورد ملوّث، خاصة أن السكان لم يعانوا من إصابات، كما استمرت عملية الشرب من الحنفيات الثلاث المزودة بالمياه المعدنية، لدقائق قبل تطبيق قرار الغلق، دون تسجيل أي إصابة، الأمر الذي بعث في أنفس السكان الكثير من الشك والريبة وجعلهم يطالبون بالتحقيق مجددا في منبع الكوليرا.

البطالة.. النفايات والأمراض.. ثالوث أسود يحاصر السكان

وقال عبد النور، ح، وهو أحد الشباب البطالين، القاطن بالسكنات القصديرية المحيطة بالمنبع، رغم أنه حامل لشهادة ماستر في البيولوجيا، إن الوضع المتعفن الذي تشهده المنطقة هناك في ظل انتشار الجرذان والنفايات قد يؤدي للإصابة بأي مرض، إلا أن المياه المعدنية مستبعد جدا أن تكون وراء إصابة الكوليرا، خاصة أن الجميع هنالك يستهلكونها كل صباح، كما تساءل قائلا “لو كان سيدي الكبير وراء انتشار الوباء، لم لم يصب سكان الولايات الأخرى”، مع العلم أن تيبازة لم تكن المتضرر الأول وإنما ولاية البليدة المسجلة لأعلى نسبة من الحالات المؤكدة وحتى المشكوك فيها.
وبالمقابل، تقول صفية ن، وهي إحدى النساء القاطنات بالحي إن السلطات تناست وجود دوّار سيدي الكبير وكأنه خارج الجزائر، لدرجة أنها كانت تسأل الله ليل نهار، حدوث كارثة طبيعية، للفت نظر المسؤولين إلى هذه المنطقة المهمشة، وترحيل قاطنيها، فلا طرقات ولا مساكن، ولا مدارس لائقة، ولا نظافة، وحتى ماء المورد الوحيد تم غلقه، ليتجرع هؤلاء السكان مرارة العيش وكأنهم موتى ودون الاستفادة حتى من أبسط حقوقهم.
وبالضفة الأخرى للوادي، يجلس فلاحو سيدي الكبير الذين طالهم البؤس بعد نشر الأنباء عن انتشار الكوليرا هناك، فطيلة موسم الشتاء وهم يشتغلون ليل نهار ليجنوا فاكهة البطيخ صيفا، إلا أنهم اليوم عاجزون عن بيعها، متحسرين على جهدهم الذي ذهب سدى، ومطالبين السلطات بالتدخل وتعويضهم، قائلين “خذوا عينات من منتوجنا وحللوها في مخابركم، ولكن لا تتركونا نموت بهذه الطريقة”.

“الكوليرا” توقف نبض الحياة بدوّار سيدي الكبير

وحتى أصحاب المحلات والمقاهي والمطاعم والتجار، باتوا يتأسفون على الركود الذي تشهده المنطقة منذ أسبوع، فلا بيع ولا شراء، والأوضاع التي كانت سيئة من قبل تزداد سوءا اليوم، رغم أنك تجد عددا كبيرا من الجزائريين يتهافتون على تيبازة من كافة النواحي، إلا أنهم يرفضون الاقتراب من سيدي الكبير، بعد أن باتت المنطقة الأولى المشتبه فيها في وباء الكوليرا.
كما صدمنا منظر أحد قاطني سيدي الكبير وهو يجلس على كرسي متحرك ينتظر قدوم الصحفيين، لمناشدتهم بإيصال صوته للمسؤولين، فهذا الأخير الذي يقطن بمسكن قصديري منذ عشرين سنة، تعرض للإصابة بسرطان العظام بسبب قساوة ظروف الحياة هناك، ولن يتمكن من الشفاء إلا بعد الخضوع لعملية جراحية تكلف 650 مليون سنتيم، علّ وعسى أن يجد آذانا صاغية لدى المسؤولين الذين تناسوا هذه الدشرة.
وفي سياق متصل، يقول المواطن مراد م، لا نريد أن يتذكرنا المسؤولون عشية كل موعد انتخابي ويغرقوننا بالوعود العسلية، لنجد أنفسنا في نهاية المطاف آخر اهتماماتهم، ولا نراهم إلا بقدوم موعد انتخابي آخر، فكم من مرة سمعنا عن إدراجنا في برامج الترحيل، ولكن “لا حياة لمن تنادي”.

رئيس بلدية حمر العين لـ”الشروق”: “إغلاق المنبع مؤقت”

وبالمقابل، رفض رئيس بلدية حمر العين لولاية تيبازة نور الدين بويزول، الخوض في ملف مياه منبع سيدي الكبير التي تمون سكان دوّار سيدي الكبير والزائرين للمنطقة، مشددا على أن البلدية قامت بالإجراءات اللازمة للحفاظ على صحة المواطنين عبر إغلاق المنبع مؤقتا لغاية اتضاح الأمور وتبينها بشكل جلي ليتم معاودة فتحه، وأضاف في تصريح لـ”الشروق”: “قمنا بالواجب وأغلقنا منبع سيدي الكبير مؤقتا واتخذنا كافة الإجراءات اللازمة لسلامة السكان وأمن الزائرين، ونحن الآن بصدد تحري الأمور”.
وفي انتظار ذلك، يناشد السكان رئيس الجمهورية عبد العزيز بوتفليقة التدخل في أقرب وقت وترحيلهم إلى سكنات لائقة، فلربما يتحول كابوس الكوليرا من نقمة إلى نعمة انتظروها ربع قرن”.

مقالات ذات صلة