الرأي

ابن الخطيب: من فاس إلى تونس!

نظرا للمسافات القصيرة التي تفصل العاصمة التونسية عن الشرق الجزائري، كان طالبو العلم من قسنطينة خلال القرون الماضية يتوجهون عموما إلى تونس للدراسة والاستزادة من العلم؛ وهم يقصدون بصفة خاصة جامع الزيتونة الذي تأسس في القرن السابع الميلادي. ومن هؤلاء الطلاب من واصل مسيرته نحو المشرق كالقاهرة والقدس والحجاز والشام، ومنهم من عاد إلى موطنه الأصلي، ومنهم من طاب له المقام في غيره. لكن ابن الخطيب القسنطيني (740هـ/1339م-810هـ/1407م)، المُلقب بابن قنفذ القسنطيني، اختار غير هذا المسلك … فقد اتّجه غربًا قبل أن يتجّه شرقًا!

من قسنطينة إلى فاس

ينتسب ابن الخطيب لعائلة قسنطينية عريقة جمعت بين الثروة المادية والعلمية والمكانة الاجتماعية. وتتلمذ في مسقط رأسه في بداية الأمر على يدي أبيه الأديب الذي كان درس بقسنطينة وبجاية، وهو معروف بمؤلفاته الأدبية. كما تتلمذ على جدّه المعروف أيضا بسعة علمه وبمكانته الدينية. ثم تابع دروس مشاهير شيوخ المدينة.
وعندما بلغ سن التاسعة عشر قصد ابن الخطيب مدينة فاس معرّجًا على تلمسان لاستكمال دراسته. ولم يمكث طويلا في تلمسان بل واصل غربًا وحلّ بمدينة فاس. وظل يجوب من هناك مدن المغرب الأقصى خلال 18 سنة! ومن تلك المدن التي تردد عليها عدة مرات آسْفي، وسَلا، ومراكش، وأزمور وكذلك منطقة دُكّالة التي تولّي فيها القضاء، ودرّس وألّف فيها بعض كتبه… بل كان يقيم فيها سنويًا ما يشبه بالمؤتمر العلمي. ومن المؤلفات التي صنفها في دُكّالة، نجد أهم كتاب له في الرياضيات وهو “حط النقاب عن وجوه أعمال الحساب” الذي ألّفه سنة 772هـ/1370م. كما تابع خلال تلك الفترة دروس شيوخ المنطقة في شتى العلوم.
من المعروف أن تلك الفترة قد تميّزت بضعف المسلمين في الأندلس وبلاد المغرب العربي، وهو ما جعل بعض العلماء في المنطقة يحثّون الناس على التشبّث أكثر فأكثر بالتعاليم الدينية لصد الهجمة النصرانية في الغرب الإسلامي فنمت في ذلك الوقت الحركة الصوفية وانتشرت. وكان ابن الخطيب مهتمًا بهذا المدّ، سيما أن والده كان أديبا ذا اتجاه صوفي. وتأثر ابن الخطيب بـ”معلم المعلمين” أبي مدين الغوث التلمساني (509هـ/1126م-594هـ/1198م) المولود بضواحي إشبيلية الأندلسية والوافد إلى فاس فدرس فيها، ثم رحل إلى مدينة بجاية وأقام فيها، وتوفي بتلمسان ودفن بها. ونظرا للمكانة العلمية والدينية التي اكتسبها في كامل المغرب العربي فقد صار ضريحه مزارا للمريدين والمحبّين.
وما يدل على شدة تأثر ابن الخطيب بأبي مدين ما سجله عنه في كتابه ‘أنس الفقير وعزّ الحقير’. كما أنه لم تفتهُ زيارة ضريحه عند عودته إلى قسنطينة حيث قال : “وآخر زيارتي [لضريح أبي مدين] عند اجتيازي عليه في ارتحالي من المغرب إلى بلد قسنطينة، وذلك سنة ست وسبعين وسبعمائة، وفي هذه السنة كانت المجاعة العظيمة في المغرب وعمّ الخراب به …”. ويفهم من هذه العبارة أيضا أن سوء الأوضاع الاجتماعية هي التي جعلت ابن الخطيب يغادر الديار المغربية.

من قسنطينة إلى تونس

ولم يُقِم ابن الخطيب طويلا في قسنطينة حتى رحل إلى مدينة تونس للنهل من معارف شيوخها في جامع الزيتونة الذين ذكر بعضهم في مؤلفاته. ثم عاد إلى قسنطينة وذاع صيته وانشغل بالإفتاء والقضاء، وعكف على التدريس والتأليف.
ومن مؤلفاته التي حظيت باهتمام كبير كتاب “أنس الفقير”، ودليل ذلك أن في سنة 1965 قام بتحقيقه باحثان، هما المغربي المرحوم محمد الفاسي (1908-1991) الذي كان يرأس آنذاك جامعة الرباط وتولى أيضا وزارة التربية المغربية، والفرنسي أدولف فور Adolphe Faure (1913-1983). وأهمية الكتاب تتجلى فيما يقدمه من أخبار ومعلومات علمية وتاريخية تمس الكثير من سِيَر العلماء ورجال الصوفية فى بلاد المغرب العربي الذين عاشوا بين القرنين 6هـ و 8هـ. وقد ركز ابن الخطيب على الشيخ أبي مدين الغوث وتطرّق إلى شيوخه وأصحابه.
أما أبرز كتاب له في الرياضيات، كما أسلفنا، فهو كتاب “حط الحجاب” الذي يشرح كتاب “تلخيص أعمال الحساب” لابن البنّاء المراكشي (654هـ/1256م-721هـ/1321م)، وهو من أكبر علماء عصره. ونظرا لأهمية أعمال ابن الخطيب في حقل الرياضيات فقد اقترحها الأستاذ أحمد جبار على المرحوم يوسف قرقور (1955-2013) كرسالة ماجستير (عنوانها “الأعمال الرياضية لابن قنفذ القسنطيني”)، ونوقشت الرسالة بالمدرسة العليا للأساتذة-القبة، عام 1990.
ألّف ابن الخطيب في مواضيع كثيرة، منها الحساب والفقه والطب والفلك والعروض والبلاغة والنحو والأصول والفرائض. ومن مؤلفاته في الجبر والحساب والفلك والتنجيم : مبادئ السالكين في شرح رجز ابن الياسمين، بغية الفارض من الحساب والفرائض، التلخيص في شرح التلخيص، تسهيل المطالب في تعديل الكواكب، تحصيل المناقب وتكميل المآرب، سراج الثقات في علم الأوقات، تسهيل العبارة في تعديل السيارة.
وينبّه بعض المؤرخين إلى أنه كان هناك شخص آخر من قسنطينة يحمل اسم “ابن قنفذ” أيضا (ويكتبه البعض على النحو ‘محمد بن قنفود القسمطيني أبو عبد الله المالكي المغربي’) له تأليف سمّاه “إدريسية النسب في الأمصار والقرى وبلاد العرب” وضعه حول رحلته إلى المغرب الأقصى. ويبدو أن ذلك كان في القرن 11 ميلادي، مع الملاحظة أن البعض يخلط بين الرجلين وبين أعمالهما.
ما من شك أنه بفضل أمثال هؤلاء العلماء الذين اتجهوا شرقًا وغربًا لطلب المعرفة بكل فنونها انتشر العلم والثقافة في حواضرنا وفي كثير من قرانا، ونتيجة لذلك حافظنا على بعض عناصر حضارتنا التي هي مُتكَأنا ورصيدنا اليوم… ولولا هذا الرصيد لكنا تحت التراب قبل الأوان!!

مقالات ذات صلة