-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

احتقار أصحاب المال لطلاب العلم

احتقار أصحاب المال لطلاب العلم

اِفتتح في بداية هذا الأسبوع “مخيم الرياضيات” الثالث في مخبر المعادلات التفاضلية الجزئية بالمدرسة العليا للأساتذة- القبة. وسيدوم أسبوعين كاملين، ويعمل المخيم من الصباح حتى السابعة مساءً. وصاحب المبادرة هو الزميل عبد الغني زغيب، الأستاذ الباحث بمركز البحث العلمي الفرنسي CNRS حيث أقام المخيم الأول في عنابة (أوت 2016) والثاني بمدنية الوادي (مارس 2017).

من يستحق الشكر والتنويه

يُعنى المخيم بتجميع أفضل طلبة الرياضيات عبر القطر بما تسمح به الإمكانات المتاحة، وتلقينهم بزاد إضافي من الرياضيات يوجِّه ويحفز الطالب على التفوّق الفكري في هذا المجال. ويؤطر هؤلاء الطلبة (نحو 45 طالبا في هذه الدورة) أساتذة جزائريون متطوّعون من الداخل والخارج لهم خبرة في التعامل مع الطلبة المتميزين.

عندما طلب منا الأستاذ زغيب مساعدته في تجسيد مبادرته طرقنا باب العديد من الجهات لأن هؤلاء الطلبة يحتاجون إلى إسكان وإطعام ومرافق للدراسة خلال نصف شهر، ما يستدعي ميزانية معتبرة لا يستطيع المخبر التكفل بها، فوجدنا آذانا مصغية لدى الديوان الوطني للخدمات الجامعية، ومسؤولي إقامتي ڤاريدي والقبة الجامعيتين، وكذا مسؤول الخدمات الجامعية في ولاية البويرة، وكلهم لم يدَّخروا وسعا لتسهيل المهمة ماديا ومعنويا.

والواقع، أن الإدارة المركزية في المدرسة العليا للأساتذة لم تكن معنية ماديا ولا تنظيميا بهذا النشاط. لكنها عندما أدركت أهمية النشاط والصعوبات التي واجهناها لم تبخل على المنظمين بما لديها من إمكانيات. ولذلك لا يسع المنظمين إلا توجيه الشكر الجزيل إلى كل هؤلاء المسؤولين في الخدمات الجامعية وفي المدرسة على إسهامهم من أجل إنجاح هذه المبادرة. كما لا ينبغي أن ننسى التنويه بدور الزملاء المتطوعين الذين لم يسكنوا فنادق 5 نجوم ولا نجمتين بل حُجزت لهم غرفٌ في الحي الجامعي وتناولوا الطعام مع طلبتهم بما تجود به الخدمات الجامعية.

ما نلاحظه في هذا المقام أن كل من وجدنا لديهم الدعم جهات تابعة إلى مرافق الدولة. ولعل القارئ يتصور أننا لم نطرق باب الخواص من أصحاب المال لدعم هذه التظاهرة العلمية؟ الواقع أننا طرقنا أبوابا كثيرة، لاسيما من ظننا أنهم من أصحاب المال الحلال، وللأسف لم نجد فيهم إلا واحدا – مشكورًا- مدّ لنا يد العون معنويا وماديا بما استطاع.. بل مددنا أيدينا حتى نحو فئة من كبار رجال المال والأعمال. لكن لا حياة لمن تنادي.

 

تحت رعاية رئيس الجمهورية

نتذكّر هنا ما نصحنا به منذ سنوات أحد العارفين بدواليب المال الحلال والمال الفاسد عندما اشتكينا من عدم التفات أصحاب المال إلى دعم التظاهرات العلمية حيث نبَّهنا إلى أن الحل الأمثل هو أن نحصل على موافقة رئاسة الجمهورية بوضع تظاهراتنا تحت رعاية فخامة الرئيس، مضيفا أن الممولين حينئذ هم الذين سيبحثون عنكم لدعمكم!

بئس هؤلاء الممولين الذين يمارسون هذا النوع من الاستغلال المقيت، ولا ينفقون بعض ما أوتوا من أموال في سبيل نشر العلم. هم يتشبَّهون بالغرب ويقلدون لغتهم كالببغاوات، وواقعهم يقول إنهم لا غربٌ ولا شرقٌ: لو نظروا نحو المشرق ماضيا وحاضرا، وقارنوا أنفسهم بمُحسنيه لاكتشفوا تعاستهم.

أما الغرب فهو منهم براء! أيُّ رجال أعمال هؤلاء الذين يظهرون في وسائل الإعلام كأنهم منقذون للبلاد، وهم الأقرب إلى مصاصي دمائه؟ إن أرادوا أن يتشبهوا بالغرب، فليتشبهوا بأولئك الكنديين الذين تبرعوا لجامعة كيبك في عام واحد بمبلغ يتجاوز 500 مليون دولار، نصفه ذهب كمنح دراسية وإعانات للمتميزين من الطلبة، أو ليتشبهوا بالأمريكيين الذين يتبرعون لإحدى جامعاتهم سنويا بما يعادل ملياريْن اثنين من الدولارات!

لمقارنة عهدٍ مجيد مضى وعهد تعيس نعيشه اليوم في هذا الباب، نضرب مثلا من بين عديد الأمثلة عرفتها قرى ومدن الجزائر العميقة: مدينة قمار بوادي سوف لم تكن في العهد الاستعماري سوى قرية صغيرة معظم سكانها من الفلاحين البؤساء ماديا. كان في القرية قبل الاستقلال مدرسة تسمى “مدرسة النجاح” تابعة إلى جمعية العلماء المسلمين. وكان أطفال القرية وجوارها يدرسون فيها- إلى جانب المواد التربوية والدينية واللغة العربية والتاريخ والجغرافيا- الرياضيات والعلوم. وقد تخرج منها بعد الاستقلال متخصصون في الفيزياء النظرية والتطبيقية والهندسة والكيمياء والرياضيات والاقتصاد والقانون، فضلا عن العلوم الإنسانية.

 أيُّ رجال أعمال هؤلاء الذين يظهرون في وسائل الإعلام كأنهم منقذون للبلاد، وهم الأقرب إلى مصاصي دمائه؟ إن أرادوا أن يتشبهوا بالغرب، فليتشبهوا بأولئك الكنديين الذين تبرعوا لجامعة كيبك في عام واحد بمبلغ يتجاوز 500 مليون دولار، أو ليتشبهوا بالأمريكيين الذين يتبرعون لإحدى جامعاتهم سنويا بما يعادل ملياريْن اثنين من الدولارات!

وكان هؤلاء التلاميذ قد واصلوا دراستهم في الداخل والخارج، وتقلدوا بعد ذلك مناصب عليا في مؤسسات الدولة وفي المؤسسات الأكاديمية.. بل منهم من أسَّس شركات في الخارج تقدم خدمات علمية للزبائن، ومنهم من يعمل في أشهر مراكز البحث في العالم.

لماذا نشير إلى كل هذا؟ لننبّه إلى أن من كان يموّل “مدرسة النجاح” جلهم فلاحون أميون لا يعرفون من القراءة إلا بعض الآيات القرآنية. وكان هؤلاء الفلاحون يعيشون فقرا مدقعا تحت أعيْن عسكر الاستعمار الذي كان يراقب بشدة تلك المدرسة ومناهجها وأناشيدها الوطنية ويضايقها ويغلق أبوابها دوريا. ورغم ذلك فهؤلاء الفلاحون كانوا يتبرعون سرا بما يملكون لدعم تلك المدرسة ومعلميها على مدى السنين. وكان المعلمون يتقاسمون ما جادت به أيدي أولئك الفلاحين لسد رمق عيالهم، وكانوا يدرّسون مختلف فئات التلاميذ، ذكورا وإناثا، من صلاة الفجر إلى صلاة العشاء!


المال الحلال والمال الفاسد

هؤلاء الفلاحون الأميّون كانوا يؤمنون بأهمية العلم بمختلف فروعه، بما فيه الرياضيات. ورغم حالتهم المادية المزرية ومضايقات الاستعمار لم يجعلوا تبرعاتهم من المال الحلال حكرا على بناء المساجد وأماكن الصلاة. أما اليوم فصارت الآيات الكريمة والعبارات الواعظة من قبيل “هذا من فضل ربي” و”ما شاء الله”، و”لا تنس ذكر الله” تزين المحلات والممتلكات. ذلك هو الظاهر من حمد الله على نعمه، أما مدى إسهام هذه النعمة في نشر العلم والحث على طلبه فهو لا يساوي مقدار بعوضة بما كان يقدِّمه الفلاحون الذين أشرنا إليهم آنفا.

ذلك هو شأن المال الذي نفترض أنه مالٌ إحلال. أما المال الذي يصفه المصطلح الحديث بالمال الفاسد فحدِّث ولا حرج، ومن الصعب أن نخوض فيه بناءً على منطلق أخلاقي.

ورغم كل ذلك، فنحن نعيب على السلطات العليا كونها لم تجد سبيلا إلى تحفيز الحلال والفاسد من الأموال لدعم النشاط العلمي ودعم المتميّز من التلاميذ. ولا شك أن هناك سبلا كثيرة في هذا الشأن، منها ما تبنّته الكويت مثلا حينما أنشأت منذ أزيد عن 30 سنة “مؤسسة الكويت للتقدم العلمي”. فحسب ما بلغنا، تتلقى هذه الهيئة سنويا من كل الشركات التجارية والاقتصادية تمويلا يتناسب مع مداخيلها السنوية. ولذا فهذه المؤسسة لا تتوانى في تمويل النشاطات العلمية كمرافقة التلاميذ وتحفيزهم في المنافسات العلمية.

فما المانع أن تنشئ الدولة عندنا هيئة من هذا القبيل تؤدي هذه المهمة النبيلة؟ كل أملنا أن يولي صاحب القرار هذا الموضوع الأهمية التي يستحقها وأن “يغرف” من المال الحلال والمال الفاسد خدمة لمن ستقع على عاتقه مستقبلا رفعة البلاد.

 
أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
3
  • حمد

    عفوا سيدي الدكتور لا مكان للعلماء هنا بيننا ، إنها أمة تحتقر العلم والعلماء .
    أذكرك بان العلامة أبو القاسم سعد الله رحمه الله ، لم يكن مرحبا به في جامعة الجزائر عندما حل بها خلال الستينات بعد عودته من الولايات المتحدة الامريكية .

  • خالد الجزائري

    شكرا على المبادرة جازاكم الله خيرا لا تلتفتو لأي كان ولا تنظرو ورائكم وامضو قدما خدمة للعلم وطلابه وتقدم ورقي هذا الوطن يا أخي سعدالله اتنتظر دعما من صاحب مال فاسد لو كان يحترم العلم والعلماء لتحصل على ماله بالجهد والمكافحة ولإحترم من يبذلون الجهد في تحصيل العلم و الرفع من مستوى التعليم في وطننا هذا من جانب ثانيا أين هي وزارة التعليم العالي المفروض هي من تتبنى هذه التجمعات واللقاءات فهي تدخل في صميم عملية الارتقاء بالتعليم الجامعي العالي و تسهم في الكشف عن المواهب و المبدعين وتشجعهم وتحفزهم .

  • التكيف مع الواقع بمرونة

    كلامك فيه عديد الأفكار يمكن تثبيبتها وتطويرها كحلول فعلية لإشكالية التمويل للدورات التدريبية ذات المستوى العالي سواء رياضيات، البرمجة (التي نفتقدها كثقافة وسط الشباب في هذا العصر وهذا الوضع بمثابة كارثة بالمقارنة مع .....لا داع) إالخ..
    قلنا دورات تكوينة (مجانية) على شاكلة مخيم كما وصفها ويتصورها الأستاذ "خالد سعد الله" مشكورا. أي وضع ارهاصات لهذه الثقافة وتطويرها في المجتمع. (وليس تكليف المتدربين بالدفع كما هي مدارس تكوين في شيء ما)
    لأن هذا يقتل الرغبة ولا ينشر هذه الثقافة ناهيك عن حساسية