اعطني حريتي أطلق يدي…
لقد أصبح العالم عاريا، مكشوف التفاصيل تحت عيون الرقباء التي لا تنام والمدججة بالتكنولوجيا الرقمية والافتراضية وما قد لا يخطر على خيال، لا شيء أضحى خافيا أو مستورا أو مستترا، عين الكبير تراقب كل شيء، ما يتحرك وما لا يتحرك.
- ومن جراء هذا الحال أصبحت حياة الفرد الخاصة عرضة لجميع الاختراقات، أينما اتجه وفي أي وقت وفي أي مكان إلا وتلاحقه كاميرات الرقابة المنصوبة بهمجية معاصرة في الشوارع والمطارات والمؤسسات الصغيرة والمتوسطة والكبيرة وفي الأسواق وملاعب كرة القدم والسلة واليد وفي محل الحلاقة للنساء والرجال أيضا وعند باب المساكن ومواقف السيارات والقطارات والحافلات العامة وفي غرف الفنادق وردهاته وفي المراحيض العمومية، كل شيء مسجل بالصورة الملونة وموثقة بالدقيقة والثانية وبالمكان بلدا ومدينة وحيّا وشارعا وزاوية.
كل شيء أصبح عاريا، معرضا للانتهاك، حديثك مسجل وهاتفك مراقب على مدار الساعة ساكتا أو متكلما، مستقبلا أو باثا، والمكالمات الهاتفية مسجلة بالثانية وبمكانها وبنوع ورقم الجهاز الذي به تتحدث ومع من تتحدث.
الحياة الشخصية اندثرت، اغتيلت، الحميميات التي كان عسلها في وشوشتها وفي ثنائية الأذن المقصودة واللسان الدافئ المتكلم، ما عادت هذه الحميميات حميميات وأنت تعرف أن هناك أذن غريب رقيب تتنصت على جملة غزل رقيق دافئ تقولها لمن تحب، ما عادت مواعيد الغزل مواعيد ولا مواعيد المناضلين السياسيين مواعيد، كل شيء مكشوف ومعروض للعامة ولرجال مخابر التحليل وشرطة الملاحقات.
كل شيء خاص وفردي أصبح عرضة للهتك والتشريح والتبريح والتفرج والفرجة، يمشي الفرد في الشارع ملاحقا كالمجرم، يتكلم عن السماء الغائمة أو الشجرة الذابلة أو الطفلة المريضة أو الحافلة المعطلة أو المتأخرة وكأنما يتحدث عن الدعوة لإسقاط النظام أو تكوين حزب أشرار خطير أو يدعو إلى شن حرب نووية أو كيماوية، كل لغتنا ولغونا مشكوك فيه ومعرض للتهمة والتأويل.
من جراء هذه العيون والآذان التكنولوجية المنصوبة في كل مكان أصبح المواطن البسيط مجرما اسمه على جميع لوائح المطلوبين، من لوائح المخافر الصغيرة إلى محكمة أمن الدولة إلى المحكمة الجنائية الدولية بلاهاي في الأراضي المنخفضة.
تمشي في الشارع فتشعر أن جيشا من الكاميرات المعقدة التكنولوجيا تحاصر خطوك وتتبعك عيونها في كل اتجاه، فتشعر بالعري وأنت في لباسك، تشعرك كأنك مقبل على ارتكاب جريمة شنعاء وأنت الذاهب إلى عملك كأي مواطن مهذب و”ولد فاميليا”، تتساءل عن أي ذنب ترتكبه أو ارتكبته وأنت الذي تختار ممشاك حتى لا تطأ قدماك نملة أو نبتة.
لقد أضحى هذا العالم عاريا وصودرت فيه جميع الحريات الشخصية، وحاصروا حتى هواء التنفس وفتشوه قبل أن يدخل الرئتين، ما عاد هناك سر يحمله الإنسان إلى فراشه ليخفيه تحت وسادته، حتى الوسادة ما عادت وسادة قد يطلع من تحتها أو من حشوها رقيب يسجل الأحلام الخطيرة على أمن الدولة وعلى الدين، ما عاد في السلة أسرار، لقد أضحت متفشية ومتداولة في مراكز الرقابة، لقد أصبح المواطن يعيش تحت أضواء كاشفة دائمة كما فئران المخابر.
أمام هذا العالم المنتهكة فيه كل حرية فردية، أتساءل: هل التكنولوجيا عالية الدقة جاءت لتحقق الحرية الفردية أم لتصادرها؟ هل جاءت لتحقيق السعادة أم لتعميم التعاسة والخوف واللاثقة؟
aminzaoui@yahoo.fr