الأحزاب عندنا وعـندهم
في كثير من الأحيان يُـرهِـق المتأمل منا نفسَه في البحث عن معايـير التخلف والـتـقـدم لدى الأمم، بينما هي متاحة له بكل يُسْر، يستطيع أن يشاهدها بالصوت الجَهير، والصورة الناصعة، والألوان الرائعة، دون أن يَـبْرَح مجلسه الذي هو فيه…
- وقد يِـشِـطُّ على نفسه في استـقـصاء أحوال المجتمعات البشرية ومحاولة استخراج ما يسمّيه أهل الإحصاء والـتخـطـيـط “المـؤشرات”، أي تلك العلامات التي تـتيح لهم إجراء الموازنة الموضوعية بين ما يفرزه كل واحد منها مـن مظاهر التـقـدم، وقياس المسافات الـتي تـفـصل، بالسنوات الضوئية، ما بين السائرين إلى الأمام، والذين لا يبذلون أدنى جهد لمغادرة أماكنهم.. فإذا هـمُّـوا بالتقدم خطوة، عادوا إلى الوراء خطوات!.. قد يَـشِط هذا على نفسه، إذن، بينما تـُهْـديه شاشة التـلـفـاز كل ما يـريد من المؤشرات في بضعة مشاهـد. وقد تابعتُ، منذ أيام قليلة، مشاهدَ مناظرةٍ تمنيت أن يكون رآها كل مسؤول جزائري بنفس العينين اللتـيـن رأيتـُها أنا بهما، وبنفس المشاعر…
- ولكن، دعـونا، لِلحظات وجـيزة، من كل هذا. فسنعود إليه… ولنـبادر بمساءلة أنفسنا بصدق: بـِـمَ، يا تـُرى، يمكن أن يَـؤوب مَن يدفعه الفـُضول إلى جمْع نـُتـَـف من الواقع الحزبي في بلادنا اليوم؟ وما نـوع الـدروس والعِـبر، أو قل الخواطر والانطباعات، التي يمكن أن يـعـود بها ذلك الفـضوليُّ من جولة خاطفة في أنفاق الأحزاب الجزائرية المظلمة، ودهـاليزها الموحشة؟؟
- لعـل أول مشهـد فيها يشد الانتباه، ويثير الاستغراب، هو كونها، عموما، عـديمة الأثر في حياة الناس، ومسيرة البلد!! لا يكاد أحد يلاحظ لها حـضورا ما، ولو كان قـلـيل الشأن، في أية ساحة من ساحات الـفعـل السياسي، لا إيـجـابــا، بمعنى الوقوف الحازم، الصادق، إلى جنب قضية حيوية ما، والنضال الميداني الصارم، الشديد، من أجلها؛ وتعبئة جماهير المناضلين وجموع المناصرين والمتعاطفين فـي سـبيلها، واتخاذ ما يلزم من المواقف الثابتة لنـُصرتها، والدعوة لها في جميع المواقف والمجالس والمناسبات…
- ولا سـلــبا، بمعنى الاعتراض على شأن من الشؤون تعتزم ألسلطة العمل به، أو يـسـعى فريقٌ ما على فرض تطبيقه، وإلزام أغلبية المجتمع به، مع أنه (المجتمع) لا يـؤيِّـده ولا يـقـبل به… وليَـقمْ، من يشاء من الناس، باستعراض كل القضايا المصيرية التي عرفتها البلاد، في العشرية الأخيرة، والتي فعلت فيها السلطة ما بدا لها… وسَـيَـرى بأمّ عينه أن الأحزاب التي يشكلُ لها الموقفُ المبدئيّ من تلك القضايا، (سواء بالسلب أو بالإيجاب)، عِلة وجودها، وجوهر عقيدتها، لم تـُبدِ أية مقاومة عملية تـُذكـر، أو معارضة فعلية جديرة بالتسجيل.. أما التي حاولت منها تحركا شكليا ما، فإنها لم تحقق أية نتيجة!. ولمعرفة الفارق في المواقف، يكفي أن نقيس بعض تلك الحركات الفولكلورية الصادرة عنها بنضال كـثـير من النقابات، والجمعيات المهنية (على سبيل المثال فقط، تلك الناشطة في قطاعات الصحة، والتعليم، والوظيفة العمومية إلخ…) ولنـَتـذكـَّـرْ كيف استماتت هذه في الدفاع عن مصالحها، (ولو كانت، غالبا، مادية بحتة)، مع أنها لا تملك لا الهالة المعنوية التي تـزْعُمها أكثر الأحزاب لنفسها، ولا المنابر التي يُـفترض في تلك الأحزاب أنها تمـتـلكها…
- أما المشهد الثاني الذي يمكن أن يستوقف الزائر الفضولي لتلك الأنفاق والدهاليز، فهو نقيض المشهد الأول، و لكنه نتـيجة منطقية له، وثمرة ناضجة من ثماره المريرة.. أجَـلْ، ما الذي يمكن أن يُـتـوقع من حزب يـَرينُ عليه الجمود، ويُـقعـده الشلل التام الذي استساغه لنفسه قبل أن يـتمكن “الغير” من سجنه فيه… وبما أن الطبيعة تـَمْـقـُتُ الفراغ -كما هو معلوم- فإنه لم يبق للأحزاب التي عطلت ناموس وجودها، إلا تعاطي ذلك النشاط الذي أتقنته، وأبدعت فيه، وهو تعاطي أنواع الصراع الداخلي والمواجهة البينية، وضروب الاحْـتِـراب، وتـَصَـيُّـد البعض لأخطاء البعض، وتآمر الكل على الكل!!
- هذا جانب من المشهد البائس؛ أما الجانب الآخـر فهو الذي تمثـله أساليب التسيير البالية، ومناهج العمل العقيمة، وعقلية الزعامة ذات التعالي والغرور، وما ينجـرُّ عنها من الـغـطـرسة، والعُــنـجُـهـيّـة، والتسلط، والانفراد بالرأي، والـتـصلب في المواقـف الهزيلة، والخلود في المنصب، والاستكثار مـن الــزبائن، والاستزادة من المتزلـفـين وسَـدَنـَـة المَعْـبَـد الذي تـُعْــقـد في أرجائه الولاءات “المشبوهة”، وتـُصاغ في زواياه خطط الـتـزوير، وتباع في أقبيته المواقع بالأكياس السوداء، ويـتـقـرر في محرابه إقـصاء هؤلاء، وترقـية أولئك، واستمالة من تـُرهب صولتهم بالـرُّشَـى والوعـود والإغراء…
- بهذا، وأمثاله، تـستعـبد مرافق السلطة الحزبَ ومَن فيه، فإذا بالغتْ في الإهانة التي قـد يَحْدُث أن لا تحتملها ذرة الكرامة البـاقية في النفس البشرية، أو رام الزعـيـم أن ينفض غبار الهوان مرة واحدة عن شخصه، أو عن حزبه؛ ولا سيما إذا أبدى نوعا من الاعـتـداد بمواهبه، ناسيا قـَدْرَه الحـقـيقي، أو أظهر أمام “السادة” ما يَعـتـقـد أنها قـوته، أو قـوة حزبه…
- حينئذٍ تـقع السماء على رأسه!! وتكون الانشقاقات أقرب إليه من حبل الوريد، فتنبت في حـقله، كالفـطر أو أسرع، التصحيحيّات، والتنسيقيّات، يـباغـتـه بها القريب قبل البعيد، وتنشط ضده الحملات الإعلامية، والعرائض الاستنكارية، وتـُنصَّبُ “الهياكل الشرعية” البديلة التي “يبادر” (كذا) بإنشائها الأقـارب قبل الأبـاعـد من قدماء الرفاق.. وإذا به، هو وحزبه، أثـَرٌ بعد عين، وشبَح لا يُرى ولا يستـبـيـن!..
- كان هـذا وغـيـرُه كثيرٌ، كثير.. يتـزاحم في خاطري، ويُـسابق بعضُـه بعضا إلى ذهني المشغول بغيره، فـيوشك أن يشوش عليّ مناظر المشهد الرائق الذي كنت في أوج التفاعل معه، إلى ما يقرب من الاندماج فيه، لولا أنني كنت، من حين إلى حين، أعود إلى واقع حالي حين أتذكر أن المنظر الذي يسحرني الآن مَـرْآه هو هنالــك عندهـم.. وليس هنا عندنا!.. ولكن لا بأس فعندما تعجبك لوحة فنية، أو قصيدة بديعة، أو زربية رائعة الصنعة… لا تعبأ مطلقا بجنسية من أنشــأ وصنع …
- كنت، ساعتئذٍ منبهرا بمجلس مكتمل القواعد الفنية. أهم من فيه امرأة ورجل من حزب واحد. الرجل كان فيه المسؤول الأول سابقا.. والمرأة هي حاليا المسؤولة الأولى فيه. وهما الفائزان الأوّلان، من جُملة ستة مرشحين، في العملية الانتخابية التي نظمها حزبُهما -على المستوى الوطني- لاختيار اثنين منهم، يتقدمان إلى الدورة الانتخابية الثانية، ذات الطابع الوطني أيضا، وهي التي يتم فيها اختيار من يترشح باسم الحزب، لخوض معركة الرئاسيات في العام القادم 2012. هذه العملية يسميها القوم هنالك “الابتدائيات”، أي الانتخابات التمهيدية التي يكون بعدها للحزب مرشح واحد، ينعقد عليه الإجماع، داخل الحزب المعني، لمواجهة مرشح الحزب الحاكم خاصة، ومرشحي الأحزاب الأخرى بوجه عام.
- وأهم ما في هذه الابتدائيات لـقاءان يتم بثهما مباشرة من إحدى أهم المحطات التلفزية في البلد.. اللقاء الأول يجمع الستة المرشحين ليعرض كل واحد برنامجه الفرعي، في إطار برنامج ومبادئ حزبهم المشترك. وتـُطرح على الجميع أسئلة الصحفـيـيـن المتناوبين على مساءلتهم… أما اللقاء الثاني فـهو مناظرة، على المباشر طبعا، بين الفائزَيْـن بالعـدد الأكبر من الأصوات. وهذه المناظرة هي التي كانت مَوضِعَ إعجابي، ومَوضُوع حديثي..
- جلسة خلت من التشنج، والتوتر، وإن لم تخل لحظة من الجد والعمق والحماسة؛ ولا غرقت مرة في الرتابة والتسطيح والسفسطة… كانت في أغلب أوقاتها وُدية، مهذبة، نأى كل طرف فيها، لا أقول عن السباب الهابط، أو البذاءة الجارحة، فقد كانا كلاهما أكبر من ذلك.. ولكن عن أدنى مساس بكرامة الآخر؛ دون أن يعني ذلك أن أيـًّا منهما لم يسع بكل ما أوتي من طاقة ليتفوق على خصمه بإبراز نقاط قوته، ومقارنتها بما يُظهر نقاط الضعف لدى منافسه.
- لن ألخص وقائع المناظرة، فليس هذا هو الذي قصدت إليه في هذه الفقرات، وإنما الذي كان هدفي من كتابتها بالذات هو أن أتساءل، وأنا استعرض صيغ الانتخابات الحزبية (وغير الحزبية) عندنا، وما يُلقى في إطارها من الكلام الفارغ، وما يُستعمل فيها من أساليب الخداع والسفسطة، وما يجري فيها من الغش والتزوير، وما تسفـر عنه، في كل مرة، من تبادل الاتهامات، وأنواع الصراعات والتصفيات.. أن أتساءل بلهفة، متى نقترب من أهل التقدم والرقي؟ متى نقلد ما عندهم من الروائع والبدائع، لا أن نظل عاكفين على مآثمهم وجرائمهم فينا!.. متى يصبح بإمكاننا أن لا نموت غـيرة كلما شاهدنا ما عند الآخرين، ونحن نعرف أنه لا يُعجـِزنا أن يكون عندنا مثل ما عند سائر الآخرين، لو كان في من يتولون أمورنا من “يَـسْخـَفْ” أو يغار..!!