الرأي

الأمازيغية من ثوابت جمعية العلماء المسلمين الجزائريين

محند أرزقي فراد
  • 1724
  • 3
ح.م

جاء في البيان الصحفي عقب اجتماع مكتب جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، أن إدراج الأمازيغية في مشروع الدستور يشكل لغما يهدّد الهوية الوطنية، وأنها ليست من ثوابت تراثها. لا شك أن هذا التصريح المناقض لتراث الجمعية يستوجب مني مناقشة أصدقائي الأساتذة الذين يؤطرون هذه الجمعية مناقشة علمية هادئة، غايتها توضيح الإشكال وإضاءة الزوايا المعتمة، وأرجو أن تتّسع صدورهم لرأيي الذي أراه صوابا لكنه يحتمل الخطأ.

 لعل ما يلفت الانتباه في واقع جمعية العلماء المسلمين الجزائريين التي قاومت الاستعمار الفرنسي مقاومة فكرية تناغمت مع المقاومة السياسية، أنها لم تعد -مع الأسف- تقود قاطرة المجتمع في زمن الاستقلال، وتراجعت كثيرا إلى الصفوف الخلفية لأسباب كثيرة، لعل أهمّها تعرضها لمضايقة شديدة مارسها النظام السياسي الشمولي الذي أحكم غلق مجال الحريات بصفة عامة، رافضا وجود تنظيمات شتى  تشكل سلطة مضادة تمارس حق النقد، قصد توجيه الأوضاع نحو الأفضل وتلافي الانزلاق إلى أتون الاستبداد.

 إن ما يحزّ في نفسي هو أن أرى قيادة الجمعية الحالية عاجزة عن استرجاع دور قيادة المجتمع، فصارت كأنها من العوامّ تكتفي بتبني ردود أفعال، وتنتظر المبادرة من الآخرين لتعلق عليها تعليقا محتشما قد يعبّر عن غياب رؤية استشرافية للمستقبل وعن افتقارها إلى الوعي التاريخي الضروري لفهم مشكلات المجتمع. مع العلم أن هذه الجمعية قد أسِّست لتقود المجتمع نحو الصلاح، وذلك بإعمال الفكر وتوسيع قاعدة العقل باعتباره صاحبا في العُسر واليُسر، وباستقطاب النخب التي تؤمن بالمقاربة العلمية بصرف النظر عن تنوعها، فدور جمعية العلماء هو تحصين المجتمع بالفكر النقدي الذي يُبنى على الرأي والرأي المخالف، ولأن التاريخ هو نتاج نقاش بنّاء يعتمد على تعدّد الآراء، وهو ما عبّر عنه القرآن بـ”التدافع”. هذا ولا يمكن في رأيي المتواضع أن تكون جمعية العلماء رائدة  في الدعوة إلى الإسلام الصحيح الذي تهوي إليه الأفئدة إلاّ بنجاحها في تكريس قيم الإسلام السمحة العابرة للأعراق، المكرِّسة لقيم الحرية والعدل والتسامح واحترام الآخرين في أديانهم ولغاتهم وعاداتهم، وتسويق القيم الإسلامية الإنسانية بأساليب راقية متمدّنة أساسها الحكمة والقول الحسن والكلمة الطيبة وقوّة الحجة.

إن الرجوع إلى آثار جمعية العلماء المسلمين الجزائريين الأصيلة، سيجعلنا نتأكد أنها احتضنت البعد الأمازيغي لغة وتاريخا وحضارة، ويتجلى ذلك بوضوح في الكتب التاريخية التي ألَّفها العلماء المصلحون سواء قبل تأسيس الجمعية أو بعدها، أذكر منهم الشيخ محمد مبارك الميلي الذي أحيا الأمة الجزائرية من دون إقصاء لأيِّ حقبة من تاريخها العريق، من خلال كتابه الموسوم: “تاريخ الجزائر في القديم والحديث” الذي تحدث فيه بإسهاب عن تاريخ الأمازيغ، وقد بعث نشر الجزء الأول منه سنة 1928م فرحة عارمة في قلب المصلح الكبير عبد الحميد بن باديس، تجلت في تعليقه الرائع الذي مفاده: إذا كان مَنْ أحيا نفسا فكأنما أحيا الناس جميعا فكيف بمن أحيا تاريخ أمة!. وأذكر أيضا في هذا السياق مؤلَف الأستاذ أحمد توفيق المدني الموسوم: “كتاب الجزائر” الصادر سنة 1931م الذي أشار فيه بإسهاب إلى مظاهر الحضارة الأمازيغية. أما الشيخ عبد الحميد بن باديس فقد أبدى موقفه المؤيد للأمازيغية بصريح العبارة في مقاله الموسوم: “ما جمعته يد الله لا تفرقه يد الشيطان”، المنشور في مجلة “الشهاب”، في شهر فيفري 1936م، والمقال هو ترحيب بكلمة الشيخ يحيى حمودي (عضو مؤسس للجمعية) التي ألقاها في اجتماع لمكتب الجمعية باللسان الأمازيغي، عبّر ابن باديس فيه عن تلاحم الأمازيغية والعربية في بوتقة الإسلام الذي جاء به الفتحُ العربي لنشر الهداية لا لبسط السيادة كما قال. والجدير بالذكر أنه وقّع مقاله هذا بنسبه الأمازيغي (عبد الحميد بن باديس الصنهاجي) وفي ذلك عبرة لمن يعتبر!.

 إن ما يُستخلص من ترحيب ابن باديس بكلمة الشيخ يحيى حمودي التي ألقاها باللسان القبائلي، هو أن الأمازيغية كانت لغة عمل أيضا لدى جمعية العلماء، وقد أكّد ذلك الأستاذ محمد الحسن فضلاء -وهو من أقطاب مدارس جمعية العلماء- حينما تحدّث عن شخصية المعلم الصادق عيسات أحد أبناء جمعية العلماء، ذاكرا أنه كان يشرح القرآن ويقدّم دروس الوعظ والإرشاد باللسان القبائلي (أنظر كتاب: من أعلام الإصلاح في الجزائر،ج 2، دار هومة، 2000، ص 148).هذا وتجدر الإشارة أيضا إلى أن الشيخ أحمد سحنون قد تغنَّى بالمكوِّن الأمازيغي في سياق النضال الفكري ضد الاستعمار، رغم أنه لا ينتمي إليه عرقيا، جاء ذلك في قصيدة العامل الجزائري التي مطلعها:

إلى أن يقول:

وهناك أيضا موقف الأستاذ محمد الصالح رمضان الذي أشار إلى المكوِّن الأمازيغي بقوله:

لعل ما يقلق في بيان مكتب الجمعية، هو أن موقف  الإخوة من الأمازيغية سار في اتجاهٍ معاكس لتراث جمعية العلماء المسلمين الجزائريين كما هو مبيّنٌ أعلاه، والأغرب من ذلك أنه (أي المكتب) يُشهِر شعار الجمعية: [ الإسلام ديننا، العربية لغتنا، الجزائر وطننا] خارج سياقه التاريخي كسلاح ضدَّ الأمازيغية، في حين أن هذا الشعار كان سلاحا فكريا فتّاكا ضد الاستعمار الفرنسي، ولا علاقة له بالمسألة الأمازيغية لا من قريب ولا من بعيد.

هذا وليعلم الإخوة الأصدقاء في الجمعية أنه آن الأوان لتعديل شعار الجمعية المذكور أعلاه، حتى ينسجم مع واقع الأمازيغية التي أخذت موقعها في الدستور، كأن تضاف إليه -مثلا- عبارة: “والأمازيغية تراثنا”، وهذا عملا بالقاعدة الفقهية التي مفادها: «لا يُنكر تغيّر الأحكام بتغيير الأزمان»، وهي القاعدة التي تؤكد واجب تفعيل الاجتهاد باستمرار دون التضحية بالجوهر، لأن استعمال المصطلحات خارج سياقها التاريخي منذرٌ بالجمود المُنجب للانحطاط. وكان من المفترض أن يتحلى الإخوة في مكتب جمعية العلماء بصدر رحب، يجعلهم يشكلون “خلية علمية” للنظر في هذا الموضوع الحسّاس الذي أقرّه القرآن( ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين)، وزكّاه تاريخ المسلمين عبر القرون الذي أكّد تعايش اللغتين في وئام وتناغم، ولم يحدّثنا التاريخ أن وجود لغتين في شمال افريقيا قد نجم عنه قيام حروبٍ عرقية، أو صدور فتاوى تحرّم تعدد الألسن، فكيف يعتبر الإخوة في مكتب جمعية العلماء اليوم ترسيمَ الأمازيغية “لغما يهدّد الهوية الوطنية” وقد أكّد التاريخ عكس ذلك؟ هذا وأتعجب كيف غاب عنهم أن المقصود بالأمة الواحدة إنما هو “وحدة العقيدة” وليس وحدة اللسان، بدليل أن الأمة الإسلامية التي تمتد من جاكرتا إلى طنجة موحّدة بالعقيدة ومختلفة في الألسن.

وفي الأخير أدعو الإخوة في مكتب جمعية العلماء إلى مراجعة موقفهم في ضوء موقف شيخ المؤرخين أبو القاسم سعد الله الذي -برغم وفائه المطلق للقومية العربية- فقد دعا في مقال جريء سنة 1994م (أنظر كتاب: أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر،ج5،ط2005،ص217) إلى إنشاء “هيئة علمية” شاملة لأقطار المغرب الإسلامي تُعنى بترقية اللغة الأمازيغية بالحروف العربية. والجدير بالذكر أن موقفه هذا كان سابقا لتأسيس المحافظة السامية للأمازيغية التي ظهرت سنة 1995. لقد راجع أستاذُنا أبو القاسم سعد الله موقفه من الأمازيغية بالإيجاب، لأنه أدرك بحصافة رأيه أن الحلّ يكمن في بناء علاقة تكاملية بين اللغتين كما كان الأمر في الماضي في إطار وعاء الحضارة الإسلامية، ولأنه أدرك أن إقصاء الأمازيغية في عقر دارها، سيجعلنا نضع جزءا هامّا من هويتنا في كفّ عفريت لا قدّر الله.

هذا ولا شك أن السؤال الجوهري الذي يجب أن تضعه الجمعية نصب عينيها، ليس أن تتساءل: هل الأمازيغية لغة أم لهجة؟ فذاك أمرٌ مفروغ منه بعد دسترتها قبل عقدين من الزمن، إنما السؤال الجوهري الذي يجب أن  نطرحه جميعا يتمحور حول طبيعة الأفق الذي ستتم في إطاره جهود ترقية الأمازيغية، هل سيتم ذلك في إطار سياقها التاريخي المتمثل في وعاء الحضارة الإسلامية الذي نهلت منه؟ أم يراد لها إطارٌ جديد طارئ يفصلها عن ماضيها ويقطع الصلة التاريخية بينها وبين العربية؟ إن واجب استشراف المستقبل يوجب على جمعية العلماء أن توجِّه جهودها نحو الإجابة عن “سؤال الانتماء” لا بطريقةٍ سياسية، بل بطريقة علمية تميط اللثام عن مظاهر الاقتراض المعرفي والمثاقفة بين اللغتين العربية والأمازيغية، عن طريق تشجيع البحث العلمي لبعث الجواهر الأدبية والثقافية واللغوية الخاصة بالأمازيغية، علما أن المصادر العربية المغاربية (شمال إفريقيا والأندلس) تزخر بمعلومات وافرة في هذا المجال.

في الأخير أعلن عن استعدادي للتعاون مع الإخوة في مكتب جمعية العلماء، من أجل العمل بنزاهة وموضوعية على بلورة موقفٍ عقلاني يراعي الواقع الثقافي المتنوّع، يكون بمثابة صمّام الأمان لوحدتنا، ويدعم الجدار الوطني المرصوص، وذلك بالسعي إلى تحقيق «وحدة متماسكة في إطار التنوُّع»، ذلك التنوُّع الذي كرّسه الله كسُنّة في خلقه على الأرض.

مقالات ذات صلة