-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع
عندما يُرفع القلم ويَشدّ المريض على الخنجر

“الأمراض العقلية” وراء جرائم قتل بشعة

سمير مخربش
  • 1127
  • 0
“الأمراض العقلية” وراء جرائم قتل بشعة
أرشيف

تنتهي العديد من جرائم القتل باكتشاف أن القاتل مصاب بمرض عقلي، فتختلط التأويلات مثلما اختلطت مع قاتل رفيقيه بالبقاع المقدسة، والذي هزّ أفئدة المعتمرين وتركنا نتلفت يمينا وشمالا ناظرين إلى أولئك الذين يعيشون بيننا بسلام، وفي لحظة تلتهب عندهم جذوة المرض فيرتكبون فعلتهم الشنيعة، ويخلفون وراءهم ألف سؤال وسؤال قبل أن يرفع عنهم العقاب.
رحلة العمرة التي انطلقت من قسنطينة انتهت بجريمة قتل شخصين في بقعة لا يليق بها القتل والإجرام، واتضح أن القاتل يعاني من مرض عقلي وكان يعالج بمستشفى الأمراض العقلية بوادي العثمانية بولاية ميلة، وفعلته جاءت نتيجة ضغوط نفسية وحالة هيجان دفعته إلى قتل اثنين من رفاقه في الغرفة في مكة المكرمة، بطعنات خنجر في جريمة شاذة، التهمة فيها موجهة إلى واحد من عالم المصابين بأمراض عقلية، والذين سبق لهم أن اقترفوا عدة جرائم مفاجئة كتلك التي كانت مؤخرا بولاية أم البواقي، أين ذبح أستاذ في التعليم الابتدائي والدته المسنة، اتضح أن القاتل هو الآخر من ذوي السوابق العقلية، ويبقى السؤال عن معتمر وأستاذ بأمراض عقلية؟

حين يغيب العقل تُقطع رؤوس الأقارب
هذه الجرائم التي يحكمها اللاعقل والهيجان، تكاد تزداد في السنوات الأخيرة، فقد سبق لولاية سطيف أن شهدت جريمة قتل ببلدية بازر سكرة راحت ضحيتها أم قتلها ابنها المريض بخنجر، فقبلت الطعنات وراحت تردد رفقة سكرات الموت “سامحتك يا ابني”، لأنها تعلم أن ابنها فعلها عن غير وعي. وأما الجريمة الأبشع على الإطلاق، فقد وقعت أيضا بولاية سطيف، نفذها شاب أقدم على قتل ثلاثة أفراد من عائلته ويتعلق الأمر بأمه ووالده وأخته، مع إصابة أخويه بجروح. وقد تمت عملية القتل باستعمال مجرفة وقضيب حديدي، فكانت البداية بالأخت التي تلقت ضربة على القفا، ثم الأم التي فارقت الحياة بطريقة لا يحتملها العقل، حيث تلقت ضربة على مستوى الرأس ولما سقطت على الأرض ظل المتهم يوجه إليها ضربات بالمجرفة حتى هشم رأسها، وأما الوالد الذي كان نائما في غرفته فتلقى هو الآخر ضربة قاتلة في الرأس. وكان القاتل حينها يتمتع ظاهريا بكامل قواه العقلية، لكن عند المختصين هو يعاني من ضغوط نفسية أو على الأقل هو مشروع “مريض عصبي” دخل حيز التنفيذ.
وفي جريمة أخرى، وقعت بتاريخ 6 أفريل 2018 ببلدية قجال بولاية سطيف، قام رب عائلة بقتل ابنه حرقا بالبنزين، فاختار الليلة التي غابت فيها زوجته عن البيت واستيقظ في ساعة مبكرة فأحضر بطانية وصب عليها البنزين، ثم لفها على ابنه البالغ من العمر 3 سنوات ولم يتردد في إشعال النار، وظل يتابع ابنه وهو يحترق إلى أن تحول إلى جثة متفحمة. ولما أنهى العملية وتأكد بأن الطفل فارق الحياة، خرج من المنزل بكل برودة وتوجه إلى المسجد لأداء صلاة الصبح، وعاد من جديد إلى البيت ليخبر والده بأنه أحرق الطفل، وهو الخبر الذي نزل على الجد كالصاعقة ولم يفهم الخطوة التي أقدم عليها ابنه.
وحسب الجيران، فإن المتهم معروف بالمنطقة بطيبته وتردده اليومي على المسجد وفي بعض الأحيان يصلي بالناس، كما عرف ببيع المسك لرواد المسجد، لكن قبل ارتكاب فعلته بمدة أصبح يميل إلى العزلة في الأيام الأخيرة ودخل في حالة اضطراب نفسي. وعند إحالته على العدالة تم إخضاعه للخبرة العقلية فتبين طبيا أنه يعاني من مرض عقلي، وإلى غاية اليوم لايزال يخضع للعلاج بمستشفى البليدة، وحسب أقاربه الذين تحدثنا معهم، هو لا يصدق أو لا يتذكر أنه قتل ابنه بيديه.
وللأزواج نصيب من جرائم القتل التي نفذت بيد لم يتحكم فيها العقل وانتهت بمآس محيرة، كتلك التي نفذها رجل في حق زوجته ببلدية بابور شمال ولاية سطيف، أين قتل زوجته وشوه جثتها بطريقة بشعة، وكان ذلك بعد مناوشات كلامية داخل المنزل، حيث اعتاد المتهم على ضرب زوجته بوحشية لكن يومها بلغ الغضب ذروته فهجم عليها بمنجل موجها إليها ضربة على مستوى الرأس سقطت على إثرها جثة هامدة، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد بل استخرج الزوج سكينا وقام بتشويه وجه زوجته، ثم غادر المنزل وترك الضحية تتخبط في بركة من الدماء، ولم يتم اكتشاف الأمر إلا في اليوم الموالي عندما زار أخ المتهم البيت فوجد الجثة ملقاة على الأرض، وبجنبها ابن الضحية البالغ من العمر سنة ونصف، والذي كان يلهو بدم أمه. وتبين حينها أن المتهم البالغ من العمر 26 سنة يعاني من اضطرابات عصبية.

يتزوج ويُنجب ويذهب إلى العمرة ثم يُقتل بخنجر “مريض”
والملاحظ من خلال قائمة القتلة المجانين أنهم يعيشون حياة تبدو عادية، فيتزوجون وينجبون الأطفال ويترددون على المساجد ويذهبون إلى أداء العمرة، ثم يختمونها بجريمة قتل يغيب عنها الوعي. وفي نظر المختصين فالمريض نفسيا أو عصبيا ليس فقط ذلك الشخص الذي يرتدي لباسا ممزقا ويصرخ في الطرقات بكلام غير مفهوم، بل قد تجده موظفا في إدارة وأستاذا جامعيا وطبيبا في المستشفى، فيبدو عاديا في تصرفاته وحركاته لكن خلايا المرض الخامدة قد تنشط في أي لحظة، ويحدث ما لم يكن في الحسبان ويرافق ذلك عادة حالة من الهيجان.
والقتل في حد ذاته خروج من الملة والعقل، ويدخل في خانة اللامعقول وحِدّة اللاعقلانية تزداد عندما يتعلق الأمر بقتل الأم والأب والابن أو أحد الأقارب، فأي ذهنية يكون عليها ذلك القاتل عندما يقدم على فعلته، سؤال يقودنا إلى معرفة نفسية الشخص الذي يرتكب هذا النوع من الجرائم، وذلك ما طرحناه على الأخصائي النفساني الدكتور مبارك لعوج الذي التقيناه بمقر عيادته بسطيف فصرح لنا بأن هناك 3 أنواع من المجرمين، مجرم مختل، ومجرم عصابي وهو إنسان عادي، وأما النوع الثالث فهو مجرم خيالي.
وبالنسبة للصنف الأول حسب الدكتور لعوج، فالمجرم قد يقتل أقاربه لأنه مصاب بمرض الذهان ويقوم بعملية القتل دون رادع، فتجده يقتل الأب أو الأم أو الأخ دون أن يتعرض لتأنيب الضمير. وأما الصنف الثاني المسمى العصابي فهو إنسان عادي لكن يتعرض لضغوطات نفسية أثناء مرحلة الطفولة من طرف العائلة أو الجيران، وهي الضغوطات التي تصل به إلى الإحباط الذي يمكن أن يدفعه إلى الإجرام دون سبب مقنع، لكن بعد ارتكاب الجريمة يشعر بالندم وتأنيب الضمير خاصة بعد دخوله السجن وهو مرشح للإصابة بمرض عقلي. في حين أن الصنف الثالث المسمى بالخيالي، فإن صاحبه يتلقى أفكارا خيالية يفهم من خلالها أن عليه قتل شخص معين. وحسب الدكتور مبروك لعوج، فإن جرائم قتل الأقارب لها أسباب سوسيولوجية نفسية مرتبطة بانفجار الخلية العائلية، حيث انتقلنا من العائلة التقليدية التي تبجل الأب والأخ الأكبر وانتقلنا إلى العائلة النووية التي زالت معها سلطة الأب إلى درجة أن الابن أصبح يحل محل الوالد، كما تخلت الأم عن دورها كمربية بعدما اقتحمت ميدان العمل وأصبح لها حساب بنكي، وبالتالي خرجت مهمة تربية الأطفال عن إطارها العائلي.
ومن جهة أخرى، يقول محدثنا كل فرد من العائلة لا يفكر إلا في نفسه، ويسعى إلى تحقيق ذاته الاقتصادية دون التفكير في الطرف الآخر وأمام تنامي النظرة المادية في عين الابن، فإنه يرى بأن والده إنسان فاشل لأنه لم يجمع له ثروة، وبالتالي فإما أن يكون مصيره دار العجزة أو القتل.
وأما العامل الآخر، يقول الدكتور، لعوج، فيتعلق بالمجتمع الذي أصيب بالتصدع مع انتشار البطالة والحرمان والمخدرات وظاهرة الحرقة التي تعتبر نوعا من الانتحار. وعادة الجريمة تكثر في الأحياء الضيقة التي تتميز بالكثافة السكانية، حيث أجرى أحد الباحثين تجربة على الفئران التي وضعها في مكان ضيق فلاحظ أنها عدوانية على العكس لما وسع لها الحيز الذي تشغله. ومن الجانب النفسي، فإن “الأنا الأعلى ” التي تمثل العقائد والتقاليد والتربية والقيم تصبح هشة في نظر البعض فتزول بالنسبة إليهم رمزية المحيطين بهم سواء كانوا من الأصول أم الأقارب أم الأصدقاء والجيران والذين قد يعتدون عليهم في أي لحظة.

لا يقتل القاتل حين يقتل وهو عاقل
كي تحمل خنجرا بيدك وتصوبه ناحية قريب أو صديق أو رفيق يجب أن تكون مختلا أو خارجا عن الفطرة. فمن باب لا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن كذلك القاتل لا يقتل وهو عاقل، فعلى بشاعة الفعل يضمحل دور العقل بطريقة أو بأخرى. وإذا كانت الجريمة عادة تزعزع كيان المجتمع فللأخصائيين في الأمراض العقلية رأيهم في هذا الفعل الذي لا يأتي من فراغ، وذاك ما قادنا إلى زيارة الدكتور فورماس عبد العزيز صاحب عيادة للأمراض العقلية بسطيف، فيقول بأن حالة الحرمان قد تكون دافعا قويا لارتكاب جريمة حتى في حق الأب أو الأم أو كلاهما أو القريب أو الصديق، والمقبل على هذا التصرف قد يكون دخل في عالم البارانويا من خلال الشكوك التي تنتابه فتجعله يعتقد أن هناك من يريد القضاء عليه، فيقوم بتأويل كل التصرفات وفق هذا المنحى، وبالتالي قد يرتكب جريمة قتل رغم أنه يبدو شخصا عاديا.
ويقول الدكتور فورماس هناك مريض يقوم بأشياء دون أن يشعر، كأن يسافر إلى مكان ما وعندما يستفيق من غيبوبته يتساءل كيف جاء إلى هذا المكان، وهذا الصنف ممكن أن يرتكب جريمة أثناء فترة الغيبوبة. ويروي لنا الدكتور فورماس حادثة حقيقية وقعت لجزار بالجزائر العاصمة، والذي دخل في غيبوبة أثناء العمل فخرج من المحل وهو يحمل الساطور بيده اليمنى، وكان يرتدي مئزرا أبيض ملطخا بالدماء، ودون أن يشعر ركب حافلة النقل الحضري باتجاه ساحة الشهداء ففزع منه الناس، خاصة لما نزل من الحافلة، ولما استفاق من غيبوبته تخلى عن الساطور وتساءل كيف أتى إلى هذا المكان وماذا كان يفعل. ورغم أن هذه الحالات نادرة لكنها قد تنتهي بجريمة قتل دون وعي من صاحبها.
ويضيف محدثنا بأن هناك أيضا مجرم بالوراثة وملامح الإجرام تكون بادية على وجهه، وعادة هذا الصنف لا يشعر بالندم بعد ارتكاب الجريمة. وفي الأخير يقول الدكتور فورماس: “إن الذي يقدم على قتل أحد والديه أو صديقه فهو مرشح بنسبة كبيرة لدخول عالم الاضطراب الذهني، وقد تكون تلك الجريمة بداية الدخول في هذا العالم، مع العلم أن هذا الأمر قد يحدث لأي شخص عادي”.
إذا عدنا إلى ذلك الذي قتل رفيقيه في الحرم المكي، وذاك الذي قتل ابنه حرقا بالبنزين بسطيف، لنا أن نعلم أن بيننا فئة واسعة تحمل بذور المرض العقلي القاتل وهي لا تدري، وذاك الحمل الوديع قد يتحول إلى وحش مفترس في أي لحظة، يحدث ذلك عندما ينشط بركان الضغوط النفسية الذي كان خامدا لسنوات، وحينها يُرفع القلم والخنجر وتحدث الكارثة.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!