-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

الإنسان المجروح

الإنسان المجروح

في الفاتح من نوفمبر 1989 شيّع كاتب ياسين إلى مثواه الأخير بالعالية، وتحوّلت المقبرة إلى مسرح صاخب تعالت فيه شعارات مندّدة بسياسة النظام، ولأول مرة تقتحم النساء حرمة المقبرة، ولأول مرة كاد التأبين أن يقرأ باللغة الفرنسية لولا تدخل مصطفى الأشرف وعبد الحميد بن الزين، ولأول مرّة يمنع المسؤولون الحاضرون في الجنازة من إلقاء النظرة الأخيرة على جثمان الفقيد.

هكذا تحوّل كاتب ياسين إلى “جثة مطوّقة” في مماته بعد أن طوّقه، وهو حيّ، حوارييه. تصريحات كاتب ياسين المديّة وانفعالاته العنيفة وأمزجته الحادة دفعت الرئيس هواري بومدين ذات يوم إلى القول عنه “من الأفضل لياسين أن يكتب ويصمت، فهو لا يحسن الحديث“.

لا يحسن الحديث بالفعل، لكنه كان بسيطا في حياته، عفويا في سلوكه، كريما في طبعه. وكان كما يقول الطاهر بن جلون “أقوى كاتب في المغرب العربي، تجاوزت شهرته الحدود المحلية لتبلغ بعدا عالميا، وكان إنسانا شعبيا، أي قريبا من شعبه، يعيش داخل طموحاته ويعبّر من خلال كتاباته، في الشعر والرواية والمسرح، عن تطلعات شعبه العميقة”.

أمضى كاتب ياسين السنة الأخيرة من حياته بفرنسا للعلاج من سرطان الدم، أخرج هناك في إطار الاحتفال بالذكرى المئتين للثورة الفرنسية مسرحية عن روبسبيير بعنوان“Le bourgeois sans culotte “، والتقى فرانسوا ميتران الذي عرض عليه إقامته ليتفرغ للكتابة، وحصل على الجائزة الوطنية الكبرى للآداب التي تمنحها وزارة الثقافة الفرنسية للكتّاب الفرونكوفونيين.

كان قد غادر الجزائر عشية أحداث أكتوبر، وبعد أيام كتبت جريدة “لوموند” مقالا تتحدث فيه عن الصمت المخجل للمثقفين الفرنسيين إزاء تلك الأحداث، وتحدثت أيضا عن صمت كاتب ياسين الذي لم يكن من عادته الصمت في مثل هذه الظروف السياسية الحرجة. وردّ كاتب ياسين بمقال بعنوان مدوّ “لقد خانوا جبهة التحرير الوطني” قال فيه: “إن الخوف من الإصلاحات كان وراء المجزرة” التي وقعت في أكتوبر، ولم يصدّق أن الجيش أطلق النار على المتظاهرين، وكتب يقول: “لقد خانوا جبهة التحرير الوطني… إن الطبقة المغلقة في الحزب الواحد ترفض أيّ تغيير وتعارضه بكل ما تملك من قوة”. وطرح ياسين فكرة خلق حساسيات داخل الحزب الوحيد من أجل بناء جزائر مستقلّة ضحى من أجلها الآلاف من خيرة أبنائها، ويختم ياسين مقاله بالقول: “إن الاستقلال لا معنى له بدون حرية“.

في هذا المقال ومقال آخر نشر بعد يومين من موت الكاتب بنفس الجريدة بعنوان “الأجداد يزدادون ضراوة” يبدو فيهما ياسين إنسانا مجروحا، غاضبا، ويائسا. هذا الشعور بالجرح والغضب واليأس ورثه ياسين من فظائع حوادث 8 ماي 1945، ومن جنون أمّه، ومن جهله للغته الأم. وقد لاحظ الكاتب المغربي الطاهر بن جلون هذا الجرح الغائر، يقول بن جلوّن: “إن كاتب ياسين لم يعرف في حياته وفي إبداعه ذلك الشرخ الذي يفصل المثقف عن شعبه. كان إنسانا بسيطا، لم يكن يحسن إخفاء مشاعره، أو أن يكيّف مواقفه بحسب الظروف. كان دائما يقول ما يعتقده حتى في أواخر حكم بومدين لما كمّمت الأفواه.

يتذكر الطاهر بن جلون حادثة وقعت في حيدرة ماي من سنة 1982 حدثت خلالها ملاسنة عنيفة بين كاتب ياسين ووزيرة الثقافة اليونانية ميلينا مركوري، بحضور وزير الثقافة الفرنسي جاك لانغ. دار الحديث حول الأدب والمتوسطية وحول دور اللغة الفرنسية. لم يكن ياسين، كما يقول الطاهر بن جلون، مرتاحا في هذا اللقاء، وانتفض كعادته ممجدا ستالين والشيوعية، وهو ما أثار حفيظة ميلينا ماركوري التي كانت لاتزال تحت صدمة حكم ديكتاتورية العقداء في اليونان. كان ياسين تحت تأثير الخمر، الذي أزال عقدة لسانه، وجعله ينطق بما لا يقال.

في جوان 1989 كان من المفروض أن يلتقي الطاهر بن جلون وكاتب ياسين في برلين في ملتقى حول الكتابة، لكن اللقاء لم يتمّ، كان ياسين في مرحلة متقدمة من المرض، ورحل عن هذه الدنيا في 28 أكتوبر 1989 في مدينة غرونوبل، ورحلت معه فورات غضبه وأوهامه وجراحه.

الطاهر بن جلّون

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
5
  • الجزائر

    لقد حمل حقيبته وذهب !!!! وبقى على أرض الجزائر محمد صلى الله عليه وسلم

  • الجزاري

    عجيب أمر المعلقين من كل المقال وكل ما فيه من معلومات ورمزية ومواقف ، لم يروا إلا كلمة الخمر عجيب.....

  • علي شايب

    نعم انسان مجروح بالجروح الانسانية الجارحة المجروحة.. خسارة .

  • أم ضياء الدين

    لم أفهم هل المقال كتبه عبد العزيز بوباكير أمالطاهر بن جلون؟على كل حال حتى رؤية كاتب ياسين لحل أزمة البلاد لم تكن صائبة خاصة وهو شيوعي ستاليني'ولازالت الأزمة مستمرة مع الأسف

  • بلقاسم

    الإنسان المجروح يشرب الخمر؟؟؟؟
    أي ثقافة تجعل من صاحبها يرتاد المواخير ويتعشق الذخان الأزرق
    رحم الله الفقيد؟
    لكن ذكر الخمر بعد الرحيل سبة، غفر الله له
    هو اليوم بين يدي الله لا ينفعه لا ستالين ولا الشيوعية والخمر لا تحل عقدة اللسان بل يفكها الله وحده كما دعا بذلك موسى عليه السلام، وإنما الخمر تذهب بالعقل ياسي بوباكير، لقد قفز إلى ذهني اللحظة وقد تذكرت أنك كتبت مذكرات الشاذلي بن جديد، فهل أوصلت أفكار الرجل على طريقة أن الخمر لا تذهب العقل وإنما تفك عقدة اللسان، رحمة باللغة والفكر والوعي سي بوباكير