الرأي

الإنفاق على “علاج” المستشفيات أولى من شراء لقاح

حبيب راشدين
  • 1716
  • 14
رويترز
زجاجات صغيرة مكتوب عليها لقاح كوفيد-19 في صورة توضيحية بتاريخ 10 أفريل 2020

أخطاء كثيرة ارتكبتها حكومة السيد جراد في مواجهة جائحة كوفيد 19 منذ البداية، بالتردد أولا في غلق حدود البلاد وبداية الانتشار عبر بؤرتين وافدتين من فرنسا وإيطاليا، ثم بإجراءات غلق متسرِّعة وغير مدروسة، أضرَّت بالاقتصاد وبالحياة الاجتماعية للمواطنين دون أن يثبت مفعولها، ثم في هدر كثير من الموارد والانقياد الأعمى لنصائح المنظمة العالمية للصحة، فيما تراخت في تأهيل المنظومة الصحية لمواجهة الجائحة، برفع مستوى التجهيز التقني والتأطير الطبي، وتكثيف التكفل بشريحة واسعة من المواطنين المصابين بأمراض مزمنة، وهي اليوم مقبلة على تبني قرار خاطئ آخر، بتوريد لقاحات صُمِّمت على عجل، في ظروف سباق دولي محموم على كعكة تقدر بما بين 230 و500 مليار دولار.
كان ينبغي لرئيس الحكومة وللهيأة العلمية التي تتحكم اليوم في القرار السياسي، ألا يخفوا على المواطنين الكلفة المالية لشراء لقاح، متوسط سعر الجرعة الواحدة يزيد عن 30 دولارا، وأن من شروط نجاح التلقيح أن يكون شاملا لا يستثني أي مواطن، بمعدَّل جرعتين في السنة، بما يعني أن الدولة سوف تكون وقتها مضطرَّة لإنفاق ما يزيد عن 2,6 مليار دولار لتغطية حملة ناجحة.

أمامنا تجارب دولية كثيرة، تفيد بأن تراجع الجائحة فيها وفي منسوب الوفيات لم يكن نتيجة الحجر، بقدر ما كان نتيجة لعاملين أساسيين: تجنيد جيد للمؤسسات الصحية والأطر الطبية، وإسعاف الحالات الحرجة بأجهزة التنفس وأسِرَّة الإنعاش، وتراجع نسبة الوفيات بعد حصاد عشرات الآلاف من المسنين وأصحاب الأمراض المزمنة، بدليل أن 95 في المائة من الإصابات على المستوى العالمي تعود لمن تتجاوز أعمارُهم الستين فما فوق، ونسبة مماثلة في حالات الوفيات، مع غشٍّ واضح في إحصاء الوفيات ارتكبته معظم حكومات العالم لغايةٍ في نفس يعقوب.

حتى الآن لست مقتنعا بنجاعة قرار الإغلاق وإجراءات التباعد الاجتماعي، التي لم يسبق للدولة ولا للمواطنين اختبارها من قبل على هذا النطاق الواسع، ولن أراهن عليها مستقبلا لا مع هذه الجائحة ولا مع غيرها، في بلد غير مؤهَّل تنظيميا وماليا لتحمل التبعات المالية والاقتصادية والنفسية، لقرار حمل نصف أرباب الأسر على الاستغناء القسري لشهور عن الاسترزاق من وظائف هشة بالاقتصاد الموازي، أو الرهان على منسوب انضباط عالي في مجتمع غير مؤطر سياسيا واجتماعيا، وقد حرمت الحكومة نفسها من الدور الذي كان بوسع المساجد أن تلعبه، كما كان قرار تعليق الدراسة خطيئة أخرى، أخرجت الملايين من التلاميذ والطلبة من فضاء يمكن التحكُّم فيه، إلى شارع منفلت غير قابل لفرض الانضباط.

ولنفس الأسباب، ولأسبابٍ أخرى متصلة بالمضاربات الضخمة التي تجري اليوم بين كبريات المخابر العالمية، لم أستوعب تسرُّع الحكومة في اتخاذ القرار بأن تكون من بين الأوائل لشراء اللقاح، فيما يجمع العلماء والمختصُّون على أن تحضير لقاح ناجع وفعَّال، يحتاج في الحد الأدنى إلى 18 شهرا من التجارب المخبرية، وإلى ثلاث سنوات من التجارب على نطاق واسع، وغالبا ما ينضج اللقاح في وقت يكون الفيروس فيه قد ضعُف، والتحق بالفيروسات الموسمية التي تتعايش معها البشرية، ولا تزيد حصّتها من الوفيات عن حالة 1 من بين 70 حالة وفاة.

لست بوارد التشكيك في حسن نيّة الحكومة، ولا في رغبتها الصادقة في طمأنة المواطنين بتبني مثل هذه القرارات، غير أنه ليس مطلوبا من الحكومة أن تكون حسنة النيّات، بقدر ما هي مطالبة باتخاذ أفضل الإجراءات، المؤسَّسة على الدراسة والخبرة، وليس على دراسات أو توصيات يسوقها اليوم “مجتمعٌ علمي طبِّي عالمي مهيمن” متهم في أكثر من موطن بالعمل تحت الإملاء، خاضع لسياسات نفعية تنفِّذها كبريات المخابر في منظومة صناعة الأدوية واللقاحات، مع تكرار فضائح توظيفها المتنامي للعقاقير واللقاحات المزيفة في ما يشبه الإبادة الناعمة للجنس البشري.

أمام رئيس الحكومة الخيرة بين: اقتناء اللقاح الكافي لـ44 مليون مواطن، سوف يكلف البلد أكثر من ملياري دولار، أو إنفاق نصف هذا المبلغ على إعادة تأهيل منظومتنا الصحية وعلاجها من “جائحة البيروقراطية” وتجهيزها ليس فقط لمحاربة الأوبئة الفيروسية، بل لرفع المعاناة عن الملايين من مرضى السكري، والقلب، والسرطان، والفشل الكلوي، والضغط الدموي… التي تقتل سنويا إضعافا مضاعفة من أي جائحة فيروسية.

مقالات ذات صلة