الرأي

الانكماش بعد الانتعاش

عمار يزلي
  • 471
  • 2
ح.م

التقلص بعد التمدد، مثلما هي خاصية فيزيقية، فهي أيضا خاصية جيوسياسية. التبشير بـ”صراع الحضارات” و”نهاية التاريخ”، ليس وليدا من فراغ، وإنما من قانون طبيعي كوني يعمل على الانكماش بعد التمدد، وهو ما ميز تاريخ كل الحضارات المتعاقبة.

القرن الـ21، هو قرن بداية الانكماش الجيوسياسي، الذي قد يمتد عشرات السنين، لكن الانكماش بدأ وسيحصل حتما، ليس في أوروبا وحدها، بل في العالم: ظهور وعودة النزعات القومية والنزاعات السياسية الداخلية في كل بلد بين جناحي اليمين واليسار، وبين التيار المحافظ والتيار الليبرالي، هو ذاته قانون الفناء الذي تحمله الدولُ الوطنية والقوميات بداخلها. الانكماش يبدأ من الأطراف وينتهي بالمركز. الهامش، أو المحيط هو من سينفصل عن المركز. المراكز عادة ما تقلُّ جاذبيتُها بفعل تنامي قدرة الهامش ونموه أو بعكس ذلك، تخلفه وتضعضع التنمية فيه. هذا ما يحصل عادة مع الإمبراطوريات، والتي مع كل محاولة للتوسع أكثر، ينتهي بها المآل إلى الانكماش ثم الأفول، لصالح قوى أو مراكز حضارية جديدة تظهر من جديد. كل هذا بسبب الصراعات الداخلية والحاجة المتزايدة إلى المداخل الاقتصادية لتحمّل أعمال التمدد، والتي عادة ما تكون على حساب المواطنين في الرقعة الجغرافية من ضرائب ورسوم مزايدة.

ما يحدث حاليا ضمن كل دولة قومية، ذلك الاستقطاب الحاد أحيانا بين مكونات الشعب المكوِّن لهذا الوطن أو ذاك. شاهدنا ما نتج عن تصاعد القومية الألمانية خلال الحرب العالمية الثانية ومحاولة التمدد الألماني على كامل التراب الأوروبي والأسيوي، وكيف حدث الانكماش بسرعة بفعل الهزيمة على يد التحالف الروسي الأمريكي الأوربي. وشاهدنا تفكُّك الاتحاد السوفيتي بناء على نفس القاعدة، وغير مستبعد أن نرى تفككا آخر في السنوات العشرين والخمسين القريبة، وقد بدأت بريطانيا التجربة في أول بلد يفتتح انفراط حبات العقد.

ظهور الأزمات ومنها جائحة كورونا، وما نجم عنها من تقلص في حجم التنمية وحجم الإنتاج والتبادل وانكماش الثورة في يد أقلية من أثرياء الذكاء الاصطناعي في وادي السيليكون، سينجم عنه حتما انكماشٌ وتقوقع حول الذات، بدأت مع ترمب ضمن عقلية اليمين المحافِظ المبنية على أولوية المركز على المحيط “أمريكا أوَّلا” لن يكون بمقدور جو بايدن ترميم ذلك بسهولة، رغم أنه سيحاول أن يعيد أمريكا لما بعد العزلة، إلا أنه لن يستطيع أن يُنفق أكثر على أوروبا المتضرِّرة وأمام النمو المضطرد للاقتصاد والقوة النامية للنمر الصيني.

النزعات العنصرية ومطالب الانكفاء على الذات التي تبرز من خلال الحركات والأحزاب اليمينية ومعاداة العولمة والليبرالية، هي مطالب ذات أسس اقتصادية قبل أن تكون مطالب هوياتية؛ فرؤية الأجانب والغرباء ينافسون أهل البلد، كما يرون ذلك، هو أمرٌ مستفزٌّ وغير مقبول، وهو ما يستدعي مطالبة ساسة بلادهم بالخروج من اتفاقيات لا مصلحة لهم فيها. وهذا ما فعلته بريطانيا مع البريكست وقد تفعلها دولٌ أخرى، خاصة وأن دول الاتحاد الأوربي ليست كلها بنفس الميزان التنموي، إذ نرى أن هناك أعباء تقع على مجموعة دول لصالح دول أخرى كانت سابقا على شفا حفرةٍ من الانهيار، كما حصل مع اليونان والبرتغال وحتى إيطاليا واسبانيا في وقت سابق. هذا في الوقت الذي قُبلت عضوية دولٍ ضعيفة اقتصاديا تحت عباءة اليورو وفضاء شنغن.. بدت مستفيدة مثل رومانيا وبعض دول المعسكر الشرقي سابقا، فيما ضاعت الاستفادة من عواصم كانت مراكز عالمية للحضارة الأوربية: اليونان وإيطاليا الرومانية.

مقالات ذات صلة