-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

البرازيل : بلد الرياضة… والرياضيات!

البرازيل : بلد الرياضة… والرياضيات!

مَن مِن شبابنا وشيوخنا لا يلم بأخبار كرة القدم البرازيلية ولاعبيها؟ ومن لا يعرف أن هذا البلد فاز بكأس العالم 5 مرات وأنه نظم كأسها عام 2014؟ لكن هل يعرف هؤلاء أكثر من ذلك عن البرازيل… إذا استثنينا المسلسلات التلفزيونية المضيّعة للوقت والمال وربما للأخلاق؟! قد يكون البعض يدري أيضا أن عدد سكان هذا البلد-القارة يتجاوز 200 مليون نسمة وأن عدد جامعاته يناهز 200 جامعة… وأن الفوارق الاجتماعية لا زالت طاغية في المدن والأرياف.

البرازيل يتطوّر

ورغم ذلك، إذا ما نظرنا إلى تطور هذا البلد في الكثير من القطاعات فإننا سنلاحظ بأنه قطع أشواطا كبيرة حتى في باب إزالة الفوارق الاجتماعية والإقليمية. وسندرك أيضا بأن هناك تقدما في محو الأمية وفي مجال التعليم الذي كان الأستاذ فرنندو حداد –اللبناني الأصل- قد أعطاه قبل سنوات دفعة قوية عندما تولى وزارة التربية لمدة 7 سنوات (2005- 2012) خلال عهدتي الرئيس لوللا والرئيسة روسيف. وكان الوزير حداد قد استقال من منصبه ليتسنى له الترشح لمشيخة أكبر بلدية في البرازيل، وهي مدينة ساوباولو ذات الـ 11 مليون نسمة، وكان له ذلك! ولا شك أن تلك الدفعة قد تركت أثرا طيبا… وما يؤكد ذلك أن البرازيل كان له شرف تنظيم أولمبياد الرياضيات العالمية في جويلية الماضي وتحصّل فيها على مرتبة أفضل من إسبانيا وفرنسا والسويد…! 

وفي هذا السياق، نشير إلى أن مصطلح “الإثنورياضيات” (أي “الرياضيات المدمجة في الثقافة الشعبية”) قد ظهر في البرازيل خلال السبعينيات من القرن الماضي بفضل أعمال الأستاذين البرازيليين أبيرتان دامبروزيو D’Ambrosio وإدواردوFerreira  وصار الآن مادة دسمة لدى مختصي تدريس الرياضيات الساعين إلى توظيف هذا المفهوم في المدرسة. 

وهكذا يتضح أن البرازيل لم يهتم بالكرة وحدها! فمن بين إنجازاته المتميزة إنشاءه لـ”معهد الرياضيات البحتة والتطبيقية” في ريو دي جانيرو عام 1951. وكان القصد من ورائه أن يكون مركزا للبحث المتقدم في هذا الحقل يشع بعلمه على كافة الاختصاصات والقطاعات الأخرى… تماما كما كان الهدف من “المركز الوطني للبحث في الرياضيات” الجزائري الذي أوشك بلدنا على إنشائه قبل سنوات، ثم أغلقت عليه حكومتنا رفوفها كي لا يرى النور ويظل العلم عندنا في ظلام دامس… ومصير “أكاديمية العلوم والتكنولوجيا” الجزائرية ليس أحسن حالا من مشروع مركز الرياضيات. وماذا نقول عن مشروع مشاركة تلاميذنا المتفوقين في الأولمبياد العلمية العالمية (الرياضيات والفيزياء)؟ بعد أن انطلقت العملية منذ ثلاث سنوات وشارك نجباؤنا بنجاح في المنافسات توقفت التدريبات فجأة قبل شهرين دون سابق إنذار على مستوى وزارة التربية!! وكأن في مثل هذه المشاريع النخبوية تتغلغل يد فساد تلاحقها وتصرّ على إبقائنا في الرداءة.

ولا غرابة في ذلك، فالمتتبع لمسيرة التربية والتعليم عندنا منذ الاستقلال يلاحظ أن الساسة بقدر ما كانوا يهتمون بـ”ديمقراطية” التعليم وتعميمه بقدر ما كانوا -ولا زالوا- يغلقون الأبواب في وجه النخب والمتفوقين. بطبيعة الحال، فالخطاب السياسي يدعو إلى الاهتمام بالنوعية وما إلى ذلك من حلو الكلام، لكن فعْل هؤلاء يثبت العكس تماما. ومن يدّعي عكس ذلك فليُرنا مؤسسة مدنية واحدة أنشئت لتكوين نخبة علمية في أي اختصاص كان!! فحتى ثانوية الرياضيات التي أنشئت في الظاهر لهذا الغرض لا تكوّن في آخر المطاف نخبة لأن النخبة تتم مرافقتها من بداية مشوارها الدراسي حتى نهايته. فأين نحن من كل ذلك؟؟ !!

في انتظار الفرج

في انتظار الفرج واهتمام الساسة بهذا الموضوع، دعنا نتّعظ ونلقي نظرة على هذا المعهد النموذجي البرازيلي المتميّز في تكوين النخب والذي يهدف إلى تنفيذ المشروع التالي:

– تعزيز البحوث العلمية رفيعة المستوى في الرياضيات وتطبيقاتها؛

– تكوين وتدريب الباحثين الجدد؛

– تشجيع نشر الثقافة والمعرفة الرياضياتية؛

– تطوير مشاريع تحسين التعليم الرياضياتي على جميع المستويات. 

فمن شأن هذه الأنشطة أن تؤدي إلى دعم المعارف الأساسية بصفة خاصة وتنمية العلوم والتكنولوجيا بصفة عامة. ويعتبر الساسة البرازيليون أن ذلك ضرورة ماسة “للتقدم الاقتصادي والاجتماعي للأمة”… هكذا يفكرون! وقد برز دور المعهد على المستوى القومي والعالمي بدءا من عام 1957 عندما عكف على تنظيم الملتقيات الرفيعة المستوى وجلب مئات العلماء كزوار ومحاضرين وباحثين. وخلال السبعينيات عرف المعهد قفزة جديدة عندما أصبح يوظف باحثين دائمين متنوعي الاختصاصات. وفي نهاية القرن العشرين بلغ المعهد مقاما رفيعا على المستوى العالمي. فعلى سبيل المثال، كانت الهيئة الدولية لحماية البيئة البحرية قد توّجته نتيجة جودة عمله العلمي سيما في تكوين وتدريب الباحثين الجدد، ما أدى إلى تخرج من المعهد مئات النوابغ من حملة الماستر والدكتوراه.

والمعهد لا يقوم بجلب كبار العلماء لتقديم المحاضرات لفائدة الطلبة المتفوقين في مستوى الماستر والدكتوراه المسجلين في المعهد فحسب بل يوفّر أيضا لمختلف الجامعات البرازيلية مادة علمية مكتوبة (كتب ودروس ودراسات) تمثل مراجع للطلبة والأساتذة في مستوى التدرج وما بعد التدرج. نشير في هذا السياق إلى أن مكتبة المعهد تعتبر من أرقى مكتبات البحث في الرياضيات عبر العالم إذ، فضلا عن الكتب التي تصلها تباعا فور صدورها من دور النشر العالمية، فهي تشترك في نحو 400 مجلة في كل فروع الرياضيات.

وما يثبت مكانة هذا المعهد أن عددا معتبرا من المنتسبين إليه هم أعضاء في الأكاديمية البرازيلية للعلوم وفي أكاديميات أخرى عالمية. وفي الوقت الراهن يوجد في المعهد نحو 150 طالب دكتوراه وماستر و 20 طالبا متفوّقا من جامعات أجنبية. أما عدد الباحثين فيه فيقارب 50 باحثا عالميا من عديد بلدان العالم. كما يقيم فيه حوالي 30 زائرا من حملة الدكتوراه اللامعين أتوا من جامعات من داخل وخارج البرازيل يقضون في المعهد سنة أو أكثر براتب معتبر. 

أما النشاطات الدورية، ففضلا عن الحلقة البحثية الأسبوعية، نشير إلى أن المعهد قد برمج تنظيم حوالي 20 ملتقى في مختلف محاور الرياضيات خلال العام 2018. ومن بين النشاطات البارزة التي سيؤدي فيها المعهد وأعضاؤه دورا رئيسيا هو تنظيم المؤتمر الدولي للرياضيات الذي ينعقد مرة كل أربع سنوات، وستنظم دورته القادمة من 1 إلى 9 أوت 2018 بريو دي جانيرو! إنه المؤتمر الذي يحضره آلاف الباحثين في الرياضيات من مختلف بقاع العالم وتوزع فيه أرقى الجوائز، منها ميدالية فيلدز… التي فاز بها أحد البرازيليين -وهو أرتر أفيلا Avila عام 2014. ويُعتبر أفيلا أول أمريكي لاتيني يتوَّج بهذا الاستحقاق. 

وهكذا سوف يتشرف الرئيس البرازيلي ميشيل تمار -ذي الأصول اللبنانية- بافتتاح هذا المؤتمر الضخم الذي يعقد لأول مرة في بلاده… وسوف يتفاخر بعد ذلك وزير العلم والتكنولوجيا البرازيلي جيلبرتو كساب -ذي الأصول اللبنانية أيضا- بهذه التظاهرة. وسنظل نحن نتفرج وننتظر الفرج!! 

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
12
  • أبو بكر خالد سعد الله

    1. فعلا هناك مئات الجامعات والمعاهد العليا في البرازيل يتجاوز عددها 700 مؤسسة لكن ما ذاع صيتها لا يتجاوز 200,

    2. ليست لدينا أية معلومة حول مواصلة تدريب المتفوقين للمشاركة في أولمبياد الرياضيات وغيرها والوزارة ملتزمة التكتم الذي يعني السلبية ولو كان فيه إيجابية لتم الاعلان عنه.

    3. بالتأكيد أن الجمعيات العلمية مهمة جدا لمرافقة هذه النشاطات لكنه يستحيل عليها أداء مهامها إذا لم يكن عناك تعاون بينها وبين السلطات. وهل مركز بحث أو أكاديمية شأن من شؤون الجمعيات؟

    4. رغم كل ما يقال فالتفاؤل مطلوب.

  • العاصمية

    شكرا لكم أستاذ سعد الله.. شخصيا ما كنت أعرف للبرازيل كل هذه القيمة في ميدان الرياضيات... وأنا أقرأ المقال إلى آخره وجدتني أسأل: لماذا نصر نحن على البقاء في ذيل الأمم في المجال العلمي والفكري؟؟ لماذا هذا "الحرص" أوما يُشبهه، على وأد كل المحاولات والمساعي الحثيثة لتطوير البحث العلمي عندنا؟ لماذا قتل النيات الطيبة؟...ما لت انتباهي استقالة وزير من منصبه للترشح لمشيخة أكبر بلدية..!! وكون الرئيس البرازيلي ووزير العلم والتكنولوجيا من أصل بلد أسهم الكثير في النهضة العلمية العربية..دمتم بخير ودام قلمك

  • REDA

    انا جزائرى اعيشو فى البرازيل حوالى 18 سنة- سان بولو وعدد الجامعاة فى البرازيل 886 ومعضمها تابعة للخواص والمشكل فى ما يخص التعليم والمشكل العويص الذى يعانى منه الطلبة هي مادة الرياضيات لهاذا ان الحكومة البرازيلية تقومو بى مجهودات لتوصل الى حل هاذا المشكل لان الرياضيات هي المادة الاساسية لتطوير التكنولجية.

  • تقي الدين

    - 2 -
    قلت سلطة واعية لمسؤوليتها و اهدافها المستقبلية, و تعرف جيدا ان التقدم الاقتصادي و الاجتماعي و العسكري اساسه العلم و العلماء .. و من اثار التقدم العلمي الملموس في البرازبل هو العدد الكبير من المجلات العلمية البرازلية التى تبنتها دور نشر كبرى لجديتها و مساهمتها الرفيعة في مجال العلوم .. و كذلك هناك في الجامعات البرازلبة يمكن ان تفرق بين الباحثين المرموقين الذين ينتجون العلم و المعرفة و الباحثين الذين لا يقدمون شيء يذكر في مجالهم سوى كثرة الكلام كما يحدث عندنا.. لكن سلم الاجور هو الفارق.

  • تقي الدين

    نحن نتفرج منذ زمن كبير حول التطور و الانجازات العلمية التى تحدث في بعض الدول التى تنتمي للعالم الثالث مثل البرازيل, إيران و تركيا و غيرها من البلدان التى وضعت العلم في مقدمة الاهتمامات لانه اساس التطور و التقدم بين الأمم .. و من ينظر في الاعوام الاخيرة الي الابحاث العلمية العديدة المنشورة في مختلف المجلات العلمية للباحثين البرازلين يدرك ضخامة الحدث و نوعية التطور الذي يراد للبلد من اجل اخراجها من براثن التخلف و التبعية الاقتصادية .. و تلك الابحاث اكيد وراءها سياسة محكمة من طرف سلطة واعية ..

  • بدون اسم

    النظام السياسي منذ نشاته له عقدة من العلماء وفي كل المجالات لذلك راح اهم اعضاء النظام يتسترون وراء شهادات مزيفة معظمها في اختصاص الحقوق والعلوم السياسية والاعلام ثم اطلقوا الاشاعة لمقولة اعطيهلي فاهم والله لايجعله باش قراء.فماذا ننتظر من هكذا نظام.

  • حكيم

    السلام عليكم،
    يا أستاذ أنا أرى أنه من الأحسن الابتعاد عن الادارة و السعي لانشاء جمعيات جادة هادفة و مستقلة تعمل في هذه المجالات و تبحث لها عن التمويل عند عامة الناس. لأن هذه المشاكل لا نزال نسمع عنها منذ مدة، و ما نزال نراوح مكاننا إلى اليوم.
    أرجو منكم أن تبحثوا عن البديل في إنشاء الجمعيات لان المعادلة التي تبحثون عنها لا يوجد لها حل في المجال الذي أنتم تريدون حلها فيه. أنظروا إلى ناشيونال جيوغرافيك أين وصلت و الله أعلم.

  • محمد

    هل من معلومات عن تربص التحضير لألمبياد الرياضيات استاذ سعد الله ؟؟
    عادة يتم تنظيم التدريب في بداية السنة لكن هذا العام لم يصلنا أي شيء ، هل تم إلغاء التدريبات ؟؟

  • سعودي خالد

    عندما تسوء الأوضاع، نتصور الحياة قاسية، صعبة، غير عادلة و لكن كل هذا ليس سببا كافيا ليمعنا من الابتسامة والضحك والنظر إلى النعم و أفضل شيء نفكر فيه، هو أن نستمر في المحاولة، لأن القلق لا يغير شيئا، خاصة أن كل شيء في هذه الحياة مؤقت خاضع لقاعدة المقدر والمكتوب سيكون.
    شكرا أستاذنا الفاضل على هذه التوجيهات، لأن كل صراع صغير هو خطوة للأمام مع انتظار الفرج . .

  • عبدالقادر

    للأسف نحن في بلد يكرس فصل العلم عن الحياة في كل الميادين,,,,,في هذا البلاد الدراسة ربما هي نوع من الالهاء,,,فطلب العلم ليس غاية لذاتها,,,,,؟؟ و المطلوب أن لا ننجح,,؟؟
    للأسف نحن لانتقدم ,,,بالضرورة نحن نتقهقر

  • صالح بوقدير

    وفي الفرجةنشوة ومتعة أيضا إذا لم تنغصها حسرة اليأس وخيبة الأمل وهزيمة النفس 7

  • الطيب

    و من قال لك نحن نتفرج يا أستاذ سعد الله !؟ نحن ننشط الكثير من المهرجانات خاصة الليلية منها و تحضرها وفود مصرية ، لبنانية ، سورية ، مغربية.... و بتخصصات علمية مدهشة ..وين تبان معاها الرياضيات !؟ و المهرجان الصغير ياكل كذا من مليار من شدة الاهتمام بالعلم و العلماء...!