الرأي

البكالوريا شهادة والنجاح استحقاق!

الآن وقد خفت صوت الزغاريد في بيوت المتوّجين بشهادة البكالوريا، يبدأ التفكير المضني في مسار هؤلاء الناجحين بمدرجات الجامعة وآفاقهم المهنية.
وبتدشين هذه المرحلة، قد يدرك الكثير أن تجاوز الامتحان النهائي للطور الثانوي ما هو إلا خطوة على طريق طويل ومحفوف بالتحديات والصعاب، لأنّ النجاح في الحياة لا تصنعه شهادة تعليمية، برغم ما تفتحه من آمال عريضة في صناعة مستقبل زاهر للأفراد الطموحين.
مثل هذا الرهان يقتضي منا الوقوف مع الراسبين في البكالوريا، الذين تجاوز عددهم 300 ألف مترشح في موسم 2018 وحده، وأضعافهم أخفقوا في نيل ذات الحلم قبل سنوات، لأنّ هؤلاء لم يفشلوا في حقيقة الأمر، بل ضاعت منهم فرصة واحدة من فرص تحقيق الذات.
البعض يعتقد خطأ أنّ مجرد تحصيل البكالوريا هو مفتاح الظفر بكل شيء، أو فقدان كل حظوظه في السعادة، بينما الواقع خلاف ذلك تماما، نطرح مثل هذه التصورات ليس انتقاصًا من قيمة الشهادة أو تزهيدا للناس في طلب العلم والسعي للترقّي في مدارجه، لكن تصحيحًا لأنساق سوسيو-ثقافية، تختزل معركة الوجود الانساني في كسب شهادة، قد لا تؤخر ولا تقدّم، أحيانًا، في مشوار أحدنا قيد أنملة.
إنّ الاحتفاء المبالغ فيه لدى البعض بنيل البكالوريا، وكذا هول الصدمة لدى عائلات أخرى لم يسعف أبناءها الحظ في بلوغها، ليس مرتبطا دائما بالتقدير للعلم كقيمة في ذاتها، بل لتأثير نمط التفكير الاجتماعي السائد في الوسط المحيط، ولرواسب تاريخية ناجمة عن حرمان الجزائريين من التعليم خلال الحقبة الاستعمارية، ما ولدّ رد الفعل القوي في تقديس تخطّي الامتحان المصيري، دون اهتمام فعلي بمضمونه وانعكاسه على المكرّمين!
إن المراد من هذا الكلام والأحكام ليس تعكير فرحة الناجحين، كلّا، بل ما نقصده هو رفع معنويات الراسبين، حتى يوقنوا أن النجاح ما يزال في متناولهم، سواء قرروا إعادة الكرّة أو الانصراف إلى مجالات أخرى تؤهِّلهم مواهبهم الفطرية والمكتسبة لاقتحامها بجدارة واستحقاق.
لا ننسى أن هذا العدد الهائل للمتقدمين لامتحانات البكالوريا سنويا، هو في الأصل ناتجٌ عن مقاربة اجتماعية لسياسة التعليم، بينما نجده في دول مجاورة وأخرى مقابلة أقل بكثير، حيث إن عدد الطلبة الجامعيين في المغرب الشقيق مثلا هو دون نصف المليون، في حين قارب في الجزائر المليونيْن، برغم التكافؤ الديمغرافي بين البلدين، ما يعني أن الفارق لا يُعدُّون فاشلين عندهم، بل هم موارد بشرية تُستثمر طاقاتها في ميادين عملية كثيرة وأساسية في صناعة التنمية!
في فرنسا كذلك، ودول أوربية شبيهة بوضعها، يتوجه الطلاب في مراحل متقدمة إلى التكوين في المعاهد المهنية المتخصصة، لأجل التحكم في حرفة يدوية، بينما تبقى الجامعة تؤدي دورها في ترقية البحث العلمي وتخريج كفاءات نظرية وفق حاجيات سوق الشغل.
المحصلة هو أن ضمان المستقبل، فضلا عن تحقيق النجاح بمفهومه الشمولي، العلمي والوظيفي والأسري والاجتماعي، ليس مرتهنا بتحصيل شهادة في منظومةٍ متدهورة بالأساس، بل هو استحقاق فردي، يشمّر فيه الطامح على سواعد الجد والكد، من خلال حُسن استغلال قدراته الكامنة وتوجيهها في المسار الصحيح، ما يعني أنّ فرص التألق والتميز ما تزال مُشرَّعة أمام الجميع إلاّ من أبى.

مقالات ذات صلة