-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

الترجمة التي تسبِّب الصّداع والمغص

لمباركية نوّار
  • 2377
  • 0
الترجمة التي تسبِّب الصّداع والمغص

في المنطلق، تحضرني ملاحظة طرفية وظرفية خاطفة أريد أن اختلس النظر إليها بسرعة. وفحواها أن اللغة العربية تتسم بصفة التقشف ونبذ الإسراف في التعابير، وتنفر من الوقوع في أخاديد الإطناب الكلامي ولو بزيادة كلمة واحدة طالما أن المعنى المقصود مفهوم. وألمُ الرأس يقال له: الصداع؛ لأن الصداع لا يكون إلا في الرأس. ويسمى ألم المعي: المغص. ومن المعيب لغويا أن يقال: صداع الرأس ومغص الأمعاء.

تقرِّبنا الترجمة من ثقافة وآداب وفنون وأفكار الآخرين، وهي وسيلة ضرورية لتحقيق التثاقف بفضل ما توفره من مساحات مشتركة يجري فيها تلاقح الحمولات الثقافية وتخصيبها وتبادلها بشكل تفاعلي يتأرجح بين الأخذ والعطاء بمقادير قليلة أو كثيرة. وبفضل الترجمة تنتشر مكاسب الثورات المعرفية، وتتخطى البيئات التي وُلدت وترعرعت فيها، وتكتسح آفاقا جديدة غير مسبوقة.

لا تقتصر الترجمة على نقل كلمة أو كلمات من لغة إلى أخرى. وينجم عن ترجمة كلمة مقابل كلمة نصا مغايرا لا يتطابق مع النص الأصلي، وقد يختلف معه اختلافا نهائيا؛ وإنما هناك ضوابط وقيود على المترجم أن يحرص على استحضارها والالتزام بها وهو يزاول عمله؛ فخصوصيات اللغة المترجَم إليها، وقواعدها، ودلالات ألفاظها وصوغ جملها ووضع علامات الوقف فيها هي من تنجب ترجمة صادقة وأمينة، ويرتاح لها القارئ ولا يتنكب عناء أو يشكو شقاء استيعاب سطورها.

لا غرو إن تحددت مشكلة الترجمة الأولى في عجز المترجم عن الوصول إلى المعنى الدقيق لما يقوم بترجمته لعدم تمكنه من اللغة المنقول إليها؛ لأن الفهم الإجمالي للجمل والفقرات المترجَمة وحده لا يكفي في هذه الحالة. وينبغي أن نتوقف عند اعتبار مهم، وهو أن لكل لغة قواعدها الخاصة بها، فالجملة في اللغة العربية يسيطر عليها الفعل سيطرة شبه تامة، والجملة الفعلية أكثر ورودا فيها من الجملة الاسمية. ولنا في القرآن الكريم خير مثال على ذلك. على خلاف اللغة الفرنسية التي تسود في تعابيرها الجملة الاسمية، أي تفتح جملها باسم أو بضمير ينوب عنه.

ظهر كتاب: “أوراس ـ النمامشة.. شهادات لرفقاء مصطفى بن بولعيد” لأول مرّة باللغة الفرنسية منذ سنتين ونيّف لصاحبه منصف جنّادي. ولم يكن الكاتبُ الذي تولى مناصبَ إدارية لفترة طويلة متخصصا في التاريخ، وإنما هو من زمرة الشغوفين الهواة المتابعين خاصة لتاريخ الثورة التحريرية. وقد وفرت له بيئة اشتغاله في ولاية باتنة ظروف نسج علاقات مع كثير من المجاهدين الطلائعيين الذين عاشوا قريبا من الشهيد الرمز مصطفى بن بولعيد. ولغة الكتاب في نسخته الأصلية تقنية جافة؛ لأن واضعه كان أسير عبارات مستجوبيه للمحافظة على الأمانة العلمية، وخوفا من التبديل والتحريف. وفي هذه الوقفة، لا نريد التوقف عند مضمون الكتاب.

قبيل أسابيع، ظهرت للكتاب المشار إليه نسخةٌ مترجمة إلى العربية. وتعريب الكتاب فكرة مشكورة ومحمودة في حد ذاتها؛ لأنها ستزيد من عدد قرائه الذين يأملون الحصول على إجابات مقنعة عن الأسئلة العالقة والشائكة التي أثيرت وما تزال تثار حول بعض الأحداث التي جرت في الولاية الأولى إبان الثورة التحريرية، والتي لم يكتمل جمع عناصر الإجابة عنها بصورة مقنعة وتامة نظرا لكثرة الروايات وتضاربها وتأثير الذاتية والتحيُّز في سردها.

على غير العادة، لم تحمل نسخ الكتاب المعرَّبة اسم المترجِم، ووراء هذا التخفي أو الإخفاء علل متبوعة بعلامة استفهام كبرى؟؟. ولا أحد يعرف عنه شيئا. ولسنا ندري هل سقط اسم المترجم سهوا ونسيانا؟ أم أريد إغفاله عن قصد؟ ولا ندري هل الترجمة قام بها مترجِم واحد، أم هي حصيلة عدة أيدي اشتبكت واشتركت في تشكيل عجين هذه الترجمة؟. كما اختفت من الكتاب كلمة المترجِم أو المترجمين التي تعد من السنن الثابتة، وفيها يكتشف القارئ دواعي الترجمة والطريقة المتبعة في إتمامها وجملة الصعوبات المواجَهة أثناء مزاولتها. ولكلمة المترجم دور آخر، فهي من تفتح شهية القارئ أو تطفئها. ويا حبذا لو وضع مترجم الكتاب عمله بين يدي مراجع كفء قبل إرساله إلى المطبعة وتكليفه النظر فيه بتروّ وإمعان بعين تقويمية  لتخليصه مما علق به من شوب وتنقيته من كل عيب.

ترجمة كتاب: “أوراس ـ النمامشة.. شهادات لرفقاء مصطفى بن بولعيد” تقنَّعت بقناع أغبر كثيف، وطليت بسخائم سود، وجنحت إلى استعمال لغة ملبكة وركيكة لم تحظ بالاعتناء ولم تتسيج بالسلامة والفصاحة، ولم توظف فيها لغة سليمة وبليغة ومشعة تخلو تعابيرها من الإبهام والاستغلاق والفساد. فهي ترجمة مهلهلة، مخلخلة، مترهلة، مضطربة وفوضوية.

من جانب آخر احتمالي، فإن حجب اسم المترجم قد يجرُّ شكًّا فحواه أن الترجمة تمت بالاستعانة بالترجمة الآلية التي أصبحت الحواسيب تضمنها في زمن قصير. وإن حصل ذلك، فأين دور المشرف على هذه الترجمة؟ لأن الاعتماد على هذا الصنف من الترجمات الميكانيكية يجعل العمل ناقصا ومنفرا للقارئ. وتحتاج الترجمة الآلية إلى تدخلات تصويبية وتعديلات تصحيحية لا مفر منها.

كثيرا ما تكون الترجمة فرصة للإبداع اللغوي؛ لأنها تمنح الوقت لاختيار المفردات المناسبة والمغنية. لكن ترجمة كتاب: “أوراس ـ النمامشة.. شهادات لرفقاء مصطفى بن بولعيد” تقنَّعت بقناع أغبر كثيف، وطليت بسخائم سود، وجنحت إلى استعمال لغة ملبكة وركيكة لم تحظ بالاعتناء ولم تتسيج بالسلامة والفصاحة، ولم توظف فيها لغة سليمة وبليغة ومشعة تخلو تعابيرها من الإبهام والاستغلاق والفساد. فهي ترجمة مهلهلة، مخلخلة، مترهلة، مضطربة وفوضوية. ولم تسلم فيها اللغة التي أوهنتها مساوئ كثيرة، ولم تستقم التعابير مع قواعد اللغة العربية حتى ما كان منها واقعا في المستويات الدنيا الابتدائية. ولا يستطيع القارئ، إن كان صبورا، أن يستخلص فهما لفقرة يرتاح له إلا بعد تكرار القراءة وتغليب احتمال تأويلي على احتمال آخر، أو إذا احتمى باجتهاده الشخصي. والحالة التي ظهرت عليها ترجمة الكتاب تجعل القراء يطعنون في أهلية المترجِم وفي رسوخ قدمه في هذا الفن.

على سبيل المثال، ما هي حصيلة الفهم التي سيحصدها القارئ المعرّب لما يقرأ مثل هذه الجمل التي أعيد نقلها بأمانة: (لم ينتهي “ينتهِ” مصطفى بن بولعيد من أن يكرر أثناء هذه اللقاءات: إذا كانت قبائلنا تتناحر ضد بعضها البعض “والصواب: يتناحر بعضُها ضدّ بعض” من هو السبب؟ الاستعمار عوض أن نتناحر لأسباب تافهة، فلنحرر أنفسنا من هذا الهيدار Hydre ولنبني “الصواب: ولنبنِ” لأبنائنا والأجيال المقبلة مستقبل حرية “الحرية” حيث لن تتصارع من أجل نقطة ماء أو جزء من الأرض؟). (ص: 32). ويشار إلى أن كلمة: “الهيدار” غريبة تمام الغرابة عن قاموس اللغة العربية. ولعل الأقرب منها هي: اللغط واللجاج.

في هذه الترجمة المختلّة والمشوّشة، أصبح الفاعلُ منصوبا والمفعولُ به مرفوعا في بعض السطور. وأمسى حرف الجزم “لم” كسيحا ومشلولا، وفاقدا لقوته على بتر زوائد الأفعال معتلة الآخر. ولم يعد ثمة تفريقٌ بين همزة القطع وهمزة الوصل، وأصبحت القواعد التي تنص على نظام وضع همزة القطع مخترَقة ومنتهكة، ولم تعد قواعدها نافذة. والفعل: “ظل” (بمعنى: أدام البقاء) تنازل عن عصاه مرغما، وأخذ مكان الفعل: “ضل” (بمعنى: انحرف عن الطريق ولم يهتدِ إلى الهدف المنشود أو الغاية المقصودة). والمأدبة (أي الطعام الذي يعدّ لدعوة أو مناسبة) أصبحت تسمى: “مندوبة”؟. وحتى إعادة ترجمة بعض العناوين وقع عليها التشويه المبطِل للفهم السليم، فكتاب المجاهد المرحوم عيسى كشيدة المترجَم والمعروف عند المهتمين والذي عنوانه الأصلي باللغة الفرنسية: les architectes de la révolution  أعيدت ترجمته إلى الشكل: “المهندسون المعماريون للثورة” (ص:57). واسم رئيس فرنسا الأسبق فرانسوا متيران تغيّر إلى فرانسوا متيراند؟. وجُمعت كلمة: “عاص” على: “عاصيين” (ص:134). وأمثلة هذه الأخطاء كثيرة وهي مبثوثة في كل صفحات الكتاب. وفي كثير من المواقع، استُعملت كلمة: “محاربون” بدل مصطلح: “مجاهدون” مما يعني التخلي عن قاموس المصطلحات المسطرة التي كانت تُستعمل أثناء الثورة التحريرية ويحرص على توظيفها كل من يدنو لتدوين أشطار من تاريخها.

لم تعد الترجمة مجرد خيانة على حسب ما يقولون ويرددون في حالة كتاب: “أوراس ـ النمامشة.. شهادات لرفقاء مصطفى بن بولعيد”، وإنما تعدَّتها إلى النحر الفظيع للّغة وللمعاني من الوتين إلى الوتين بشفرة تالفة وغير مشحوذة، وانجرّ عن ذلك تضييعٌ للفائدة الاكتسابية المرجوَّة منه، وتلاعبٌ بقيمته كوثيقة يمكن أن تكون موردا إضافيا للباحثين المهتمين بتاريخ الثورة التحريرية في الولاية الأولى الأوراس.

ومن وجهة نظري، فإن مراجعة ترجمة هذا الكتاب مراجعة عميقة وتصويبية لإصلاح فسادها وتخليصها من ركاكتها أمرٌ لا مهرب منه.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!