-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

التقرير الصحفي الأخير لشيرين أبوعاقلة

بقلم الأسير الفلسطيني: حسام زهدي شاهين
  • 364
  • 0
التقرير الصحفي الأخير لشيرين أبوعاقلة

إن سريالية التفاؤل والأمل الذي خلّفه استشهاد شيرين في قلوبنا، رغم الألم الشديد الذي إعترانا كجماعة وكأفراد، لهو دليلٌ حيّ على صوابية رسالتها نحو الحرية والوحدة، بمزيد من التحدي والتماسك ومقاومة الاحتلال، فموتها أكد لنا بأن لها حياةً في حياة غيرها من أبناء شعبها، حياة يهتف بها المكان قبل الإنسان، إذ حُملت على أكتاف جنين، وشَيَّع جثمانَها جرزيم وعيبال، وسارت بها شوارعُ رام الله بخشوع ووقار نحو ضريح الشهيد ياسر عرفات لتحمل منه رسالة محبة للقدس التي ينتظرها وتنتظره، ونطقت بها أسوار المدينة العتيقة، وانبجست دموع من أشجارها وشوارعها وحجارتها، دموع محبة ذرفتها فلسطين وهي تزف عروسها نحو مرقدها الأخير.

لقد شاهدنا أمير القدس فيصل الحسيني، بابتسامته المعهودة ورأسه الشامخ، يمد ذراعيه لاستقبالها إشبيناً ومن خلفه تقف أطياف كل مشيعة، وهم ينسجون لها ثوب عرسها بألوان علم فلسطين.

إن اللغة الصامتة التي تحدثت بها إلينا شيرين في تقريرها الصّحفي الأخير، وهي تغطي أحداث جنازتها، كانت أعمق وأبلغ من كل الكلمات المنطوقة، التي تحمل علامات ورموزا، وقد عبَّر عنها صديقي الفنان الأسير “جمال الهندي” بلوحة مشحونة بالمعاني المكثفة، ولدت بعد تفاعل معجون بالوجع بين عددٍ من الأسرى، أطلق عليها اسم “الوصيَّة”، وصوَّر فيها شيرين مبتسمة بينما تشاهد جنازتها تهدم جدار الفصل العنصري وتحرر القدس، وكأن لسان حالها يوصي شعبها بضرورة هدمه.

جنازتها كانت مهيبة ومدوية، تردد صداها في كل أرجاء الكون، وفهم صرختَها البشرُ، كل البشر، فهموها بإنسانيتهم الموجوعة والمفجوعة، واهتزت قلوبهم مع اهتزاز نعشها في اللحظة التي نهشت فيها عِصّيُ المستعمِرِ الجلاد أطراف حماة جثمانها ورؤوسهم، فالدولة التي ترتعش خوفاً أمام تابوب وعَلم، هي حتماً دولة فاقدة لكل مقومات شرعية وجودها.

جنازة شيرين كانت أشبه بمنازلة بين الإرادة والغطرسة، بين مسيرة الأعلام الفلسطينية ومسيرة الأعلام الصهيونية، المسيرتان اللتان هُزم فيهما الاحتلال هزيمة مجلجلة؛ فثلاثة آلاف شرطي وجندي مدججين بكل أنواع الأسلحة فشلوا في إلقاء القبض على عَلم تحميه براءة الطفولة، وقبضة مريم المقدسية، كما فشلوا في حماية علم الاحتلال بكل ما في جعبتهم من قوة، لأن العلم الذي تحميه القلوب والجوارح يبقى مرفرفاً خفاقاً في السماء مقابل علم القراصنة الذي ينحني خوفاً ورعباً، يسير ذليلاً تحت حراسة البنادق.

مقتل شيرين وجنازتها أثبتا للقاصي والداني مرة أخرى، بأن الاحتلال لا يمكن له أن يتخلص من ظلاميته وأحقاده البشعة ما لم يتخلص من جوهر وجوده العنصري كاحتلال أولاً وقبل كل شيء آخر، ولو افترضنا مجازاً بأن هذا التخلص قد تم، فإنه سيؤدي إلى نفي شرعية الاحتلال وإلى نسف رواية وجوده القائمتين أصلاً على التزوير والقوة وحدهما، فالهوس والهستيريا اللذان يتلبسان جنوده بمجرد رؤيتهم علم فلسطين يؤكدان هذه الخلاصة، الخلاصة التي تُخطّئ كل من يعتقد بإمكانية حدوث صراع أخلاقي داخلي بين الاحتلال بجوهره الاستعماري وبين شرعية وجوده، فالاحتلال والأخلاق خطان متوازيان لا يمكن لهما أن يلتقيا بحالة من الأحوال إلا عند خط الصراع والمواجهة المباشرة.

إن أخلاقية الثورة وحق المقاومة المشروعة في الدفاع عن الوطن والنفس تُبقيان باب المواجهة مفتوحاً على مصراعيه مع “شرعية” القوة الاستعمارية، فإذا كان الاحتلال لا يُنتج سوى الظلم والاضطهاد، ولا يمكن له أن ينتج غير ذلك، كما الذئب الذي لا يمكن له أن يلد حملا، فهذا يعني بأن الاحتلال لا يُهزَم ولا يتراجع عن عدوانه وطغيانه إلا بفعل الثورة وضربات المقاومة باعتبارهما النقيض الطبيعي المستنِد إلى قوة الحق في مواجهة حق القوة.

باختصار، وبعيداً عن الكلام الدبلوماسي، والمجاملات السياسية التي لا تفيد في مثل حالتنا الفلسطينية، تؤكد كل الأحداث التاريخية بأنه من المستحيل أن تكون صهيونيًّا –بما في ذلك الحد الأدنى من الصهيونية الذي تدَّعيه بقايا اليسار-  من دون أن تكون عنصريًّا، خاصة عندما تتعلق المسألة بحقوق الشعب الفلسطيني وثوابته، وكل من يهادن الاحتلال أو يطبِّع معه أو يحاول التعايش معه، ينحاز تلقائياً لجهة الظلم والاضطهاد والعنصرية، ويصطفُّ معها ضد القيم الأخلاقية والإنسانية التي يدَّعيها العالم ويتبناها في مواثيقه وشرائعه الدولية، فمن يرفض مقاومتنا للاحتلال ويُدينها، عليه أن يتفضل مشكورا، ويدلنا على طريق آخر للخلاص من عذابنا المتواصل على مدار أربعة وسبعين عاما، وسنصنع له بيتا في قلوبنا وتمثالا في ساحات كل مدننا وقرانا المهجرة وميادينها.

طوبى لأيقونة الإعلام الوطني، وسيِّدة الكلمة النزيهة والحرة في ذكرى وداعها الأربعين، وسلام على روحها الطاهرة التي تمددت على مساحة فلسطين التاريخية، وأعادت لها هويتها الجامعة التي تقلصت وانحسرت بفعل الأداء السياسي الخاطئ إلى هويات محلية ممزقة.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!