-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

التّشويق إلى حجّ بيت الله العتيق

سلطان بركاني
  • 3340
  • 0
التّشويق إلى حجّ بيت الله العتيق

لله ما أعظم وما أجمل تلك الصّور التي تتناقلها الفضائيات هذه الأيام؛ صور حجّاج بيت الله الحرام المتوافدين على تلك البقاع الطّاهرة، صور عباد لله مؤمنين تحمّلوا المشاقّ وأنفقوا الأموال، وجاءوا من كلّ حدب وصوب ليفوزوا برضا ذي العزّة والجلال.. ولِيشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات. جاءوا تسوقهم الرّغبة ويحدوهم الشّوق.. فلله كم من أعين دمعت هذه الأيام وهي ترى الكعبة وبيت الله الحرام، ولله كم من أيدٍ ارتفعت بالدّعاء حمدا لله على نعمة التّوفيق لبلوغ ذلك المقام، وكم من جباه خضعت لله، بل كم من أرواح فاضت إلى باريها من شدّة الشّوق ومن شدّة الفرح {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً}.

في زمن مضى دخل مكةَ قومٌ حجاجٌ ومعهم امرأة لا تفتر تقول: أين بيت ربي؟ أين بيت ربّي؟ وهم يقولون: اصبري قليلا وسترينه. فلمّا رأوه قالوا: هذا بيت ربك، أما ترينه؟ فجعلت تسرع إليه وتقول: بيت ربي، بيت ربي، حتى وضعت جبهتها على البيت. فما رفعتها إلا وقد أسلمت الرّوح إلى بارئها.. ماتت من شدّة الشّوق والفرح.. فلله درّها.

كم من عباد لله تابوا وأنابوا إلى الله، بل كم من عباد أسلموا لله ربّ البريات، بسبب رؤيتهم للحجيج وهم يطوفون حول البيت العتيق أو يقفون في عرفات.. كم من قلوب لانت وكم من عيون دمعت لتلك المناظر وتلك الصّور.

هذا أحد الأمراء في زمن مضى، كان صاحب لهو وغفلة، صاد يوماً من الأيام صيداً كثيراً فبنى من حوافر الوحش وقرونها منارة، ثمّ وقف يتأمل الحجاج وهم يقطعون أرض العراق يريدون البيت الحرام. رّق قلبه، فنزل وسجد وعفّر وجهه في التّراب وبكى.

صاحبُ لهو وغفلة وترف يرقّ قلبه وهو يرى الحجيج في طريقهم إلى البيت الحرام، فكيف لو لبس ثياب الإحرام؟ كيف لو لبّى مع الملبّين وأحرم مع المحرمين؟ كيف لو رأى البيت العتيق وطاف مع الطّائفين وسعى مع السّاعين، ووقف بعرفات مع الواقفين؟

يروي أحد الدّعاة يقول: ذكر لي أحد الثقات العاملين على استقبال الحجّاج في مدينة جدة، أنّ طائرة تحمل حجاجاً من إحدى الدول الآسيوية وصلت في ثلث الليل الأخير في أحد الأيام. قال: كان أول الوفد نزولاً امرأة كبيرة السن، فما أن وطئت قدماها الأرض حتى خرَّت ساجدة لله. فأطالت السّجود كثيراً حتى وقع في نفسي خوف عليها. فلما اقتربنا منها وحركناها فإذا هي جثة هامدة. قال: فعجبت لأمرها وتأثرت لحالها، فسألت عنها فقالوا: منذ 30 سنة وهي تجمع المال درهماً درهماً لتحجّ إلى بيت الله الحرام. فهنيئا هنيئا لها هذه الخاتمة. هنيئا لها وقد كانت تدّخر من قوتها 30 سنة كاملة لتحجّ إلى بيت الله الحرام. هنيئا لها وقد احترقت شوقا لتلك الأرض وذلك المقام. هنيئا لها وقد أحرمت مع المحرمين ولبّت مع الملبّين وهلّلت مع المهلّلين، والنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: (ما أهلّ مهلّ قطّ ولا كبّر مكبّر قطّ إلا بشّر بالجنّة).

إنّ رؤية صور الحجيج وهم في تلك البقاع الطّاهرة يحرّك القلوب ويبعث الأشواق، فلله كيف تكون مشاعر من يكون بنفسه في تلك البقاع؟ إنّها مشاعر وروحانيات تعجز عن وصفها الألسن والأقلام، ولكنّ دموع العيون الصّادقة التي تنهمر على خدود الحجيج تمثّل أصدق تعبير عنها.

فلله ما أشدّ حرمان من يرى كلّ عام صور تلك الجموع المؤمنة في تلك البقاع الطّاهرة ولا تتحرّك نفسه، ولا تهفو روحه ليكون يوما ما بين تلك الوفود! يملك ما يملك من الأموال فيتذكّر السكن والسيارة ومستقبل الأطفال، ويغدق في الإنفاق على الكماليات وربّما يعلّق صورة الكعبة المشرفة وبيت الله الحرام في بيته وفي متجره، وينسى فرضا لا يتمّ إسلام المرء إلا به.

فالله الله أخي المؤمن في هذا الفرض من فرائض الله، أن تنشغل عنه بالتّزوّد من حطام الدّنيا والإكثار من شهواتها وملذّاتها، فهي والله كالماء المالح كلّما ازداد الإنسان منه شربا ازداد عطشا، فحسبُ المسلم من هذه الحياة ما يعينه على طاعة الله.. فكم من مفرّط هو الآن تحت اللّحد كان يؤخّر الحجّ ويؤمّل وقد وجب في حقّه حتّى أتاه الأجل فما أدرك ما كان يؤمّل، وما أخذ من حطام الدّنيا التي ألهته عن هذا الفرض من فرائض الله غير ثلاث لفائف من قماش أبيض يكون الدّود قد نازعه عليها.

ألا لا يغترنّ شابّ بشبابه، فإنّ الموت أقرب إلى أحدنا من شراك نعله.. فكم في المقابر من متحسّر على إضاعة هذا الفرض من فرائض الله ((حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُون)). 

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!