-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

الثورة الجزائرية في عيدها التاسع والستين.. نموذج لتحرير فلسطين

بقلم: د / حبيب حسن اللولب - تونس
  • 237
  • 0
الثورة الجزائرية في عيدها التاسع والستين.. نموذج لتحرير فلسطين

تحيي الجزائر، الذكرى التاسعة والستين للثورة التحرير الجزائرية، على أمل أن نستخلص من محطاتها ورسالتها الخالدة ومشروعها الحضاري، دروسا وعبرا للتصحيح وتعديل واستشراف المستقبل، لقد حظيت الثورة التحريرية الجزائرية وتجربتها التاريخية باهتمام الكثير من الباحثين على اختلاف جنسياتهم وإيديولوجياتهم، للأهداف النبيلة التي كانت ترمي إليها، والمبادئ الفكرية والقيم الإنسانية التي تأسست عليها، وكذا مشروعها الحضاري المتمثل في إرساء قواعد الدولة الوطنية العصرية على الساحة الدولية في فترة ما بعد الاستقلال.
ولعل ما يجسد هذا البعد الفكري والإنساني لأدبيات ونصوص الثورة الجزائرية، هي تلك المعركة السياسية التي جرت بين القوات الوطنية والاستعمار، والتي لم تكن فقط معركة قمع وسجون وإضرابات وانتخابات وقوانين مجحفة وتمرد صارم عليها، بل كانت أيضا معركة مفاهيم ومبادئ وقيم تتصارع فيها الأفكار بين الاستعمار وأطياف الحركة الوطنية، وما حملته من مشروع حضاري مفعم بالمبادئ والقيم الإنسانية النبيلة، واستخلاص هذه العبر والدروس من محطات الثورة الجزائرية ومشروعها الإنساني، اغتنمنا فرصة إحياء الذكرى التاسع والستين للثورة الجزائرية، تحت عنوان الثورة الجزائرية في عيدها التاسع والستين: كنموذج لتحرير فلسطين.
وللوقوف عند تلك المحطات وما حملته من رسائل وعبر، كان لزاما علينا العودة إلى أصولها وجذورها وإرهاصاتها، والتي تعود إلى الانتفاضات والمقاومات الشعبية المتعاقبة، التي اندلعت منذ وطئت أقدام الفرنسيين الأراضي الجزائرية في جويلية 1830، كمقاومة أحمد باي والأمير عبد القادر الجزائري ولالة فاطمة نسومر والزعاطشة والشيخ المقراني والشيخ بوعمامة… وغيرها من المقاومات، بإضافة إلى ذلك نجد الدور البارز والقيادي للزوايا والطرق الصوفية ورجال الإصلاح في المحافظة على مبادئ المجتمع الجزائري وقيمه، والدفاع عن هويته وانتمائه الحضاري.
لقد اتبعت الحكومة الفرنسية خطة محكمة للتفرد بحكم الجزائر (1830-1880) وعزلها عن محيطها المغاربي، ففي المرحلة الأولى نهجت سياسة “فرّق تسد” بين الجزائريين والتونسيين والمغاربة، بقطع كل أواصر الدعم والتضامن مع الجزائر، وبعد القضاء على المقاومات والانتفاضات، انتقلت إلى المرحلة الثانية ابتداء من سنة1881، لتأمين وجودها الأبدي بالجزائر، باحتلال كل من تونس والمغرب، وهذه الإستراتيجية بالإضافة إلى المقاومات والانتفاضات الجزائرية، التي كانت سببا وعاملا في تأخّير احتلال تونس إلى سنة 1881 والمغرب إلى سنة 1912 وتغيير نظام الاحتلال Occupation والاستعمار Colonisation بالحماية Protection
لقد كانت الحرب بين الجزائريين والفرنسيين كرّا وفرّا، وانطلاقا من التقييم المعمّق لمرحلة الثورات الشعبية، دخلت المواجهة في المحطة الثانية، وهي مرحلة لملمة وتوحيد الصفوف وإعداد الإستراتيجية وخطة طريق، لمواجهة مشروع الاحتلال الفرنسي، بنشر الوعي والمعرفة والتعليم والتثقيف، وتأسيس المدارس والجمعيات والصحف، وإرسال التلامذة والطلبة الجزائريين، إلى كل من مدارس الزوايا والطرق الصوفية الموجودة بالجزائر وتونس والمغرب، وإلى جامع الزيتونة المعمور الذي انتسب إليه أغلب الطلبة ابتداء من سنة 1876، وجامع القرويين بفاس، وجامع الأزهر بمصر والمشرق العربي.
انطلقت مرحلة المقاومة السياسية والثقافية بعد الحرب العالمية الأولى، برجوع الطلبة بالإجازات والشهائد متعددة الاختصاصات من كل فرنسا وتونس والمغرب ومصر واستقرارهم بالمدن الجزائرية، فتأسّست العديد من المدارس الخاصة والجمعيات والأحزاب والجرائد والنوادي، ونشط أئمة المساجد في العديد من المدن والقرى، متخذين من الجوامع والمساجد مركزا ومنطلقا لتعليم والتثقيف ونشر الوعي والمعرفة، ولعب كل من الشيخ عبد الحميد ابن باديس والشيخ محمد البشير الإبراهيمي وبعض شيوخ الزوايا والطرق الصوفية المتحرين من الوصاية الإقامة العامة الفرنسية وزملائهم بعد تخرجهم من الزيتونة وحصولهم على شهائد، دورا محوريا بمؤازرة العلماء الجزائريين.
وهذا الحراك والنشاط الحزبي والجمعوي الجزائري تطور ليصبح مغاربيا، وقد ساهمت فيه الجالية المغاربية، وبالخصوص الطلبة الجزائريين والتونسيين والمغاربة الدارسين في فرنسا، بتشكيل حزب نجم شمال إفريقيا وجمعية طلبة شمال إفريقيا المسلمين سنة 1927، لينتقل الحراك المغاربي السياسي بعد الحرب العالمية الثانية إلى المشرق العربي (مصر والعراق وسوريا)، وتزداد عرى التنسيق بين الحركات الوطنية الجزائرية التونسية والمغربية.
واندلعت الثورة التونسية في 18 جانفي 1952، التي طالبت بجلاء الفرنسيين، ودخلت الحركة الوطنية الجزائرية في مرحلة الإعداد للثورة، مستفيدة في ذلك من التجارب ودروس الانتفاضات والمقاومات والثورات السابقة، والتخطيط لثورة شاملة في كامل التراب الجزائري، ونقلها إلى كل من التراب التونسي والمغربي أي مغربتها، وهنا تظهر عبقرية الثورة والقيادة الجزائرية، وقد تفطنت الحكومة الفرنسية لهذا المخطط، الذي قادها إلى انتهاج سياسة استباقية من خلال وضع خطة وإستراتيجية تمثلت بدخول في مفاوضات مع التونسيين والمغاربة، لعزل الثورة الجزائرية عن محيطها وفضائها المغاربي والتفرد بها، ومنحت لتونس الاستقلال الذاتي في جوان 1955، وأمام قوة الثورة الجزائرية وتوحد الثوار وانضمام عدد من التونسيين والمغاربة إليها، كلها عجلت بدخول الفرنسيين في مفاوضات جديدة، اعترفت بموجبها باستقلال كل من تونس والمغرب في مارس 1956.
هذه الخطوة الاستباقية لم تكن كافية، في ظل تواجد الجيوش الفرنسية، في كل من المغرب وتونس، وعربدة وتنطع الجيش الفرنسي المتمركز بالجزائر والحدود وتنطعه وعدم اعترافه بالاستقلال والتزامه بالاتفاقيات والمعاهدات مبرمة، وقد تيقنت حكومتي التونسية والمغربية بأنه – لا معنى للاستقلال – دون الجزائر، ودخلت في مفاوضات جديدة مع الفرنسيين، اتفقت بموجبها على تشكيل كونفيدرالية شمال إفريقيا أو اتحاد بين تونس والجزائر والمغرب، عقدت ندوة لإعلان هذا المشروع في أكتوبر 1956 بتونس، بمشاركة كل من الحكومة التونسية والمغربية والفرنسية وجبهة التحرير الوطني الجزائرية، ولكن المشروع أجهض وأفشل من قبل الجيش الفرنسي والمعمرين، على إثر حادثة اختطاف قادة الثورة الجزائرية الخمسة في 22 أكتوبر 1956.
في الحقيقة، يمثل تاريخ 22 أكتوبر 1956 اختطاف القادة الجزائريين، محطة هامة بمغربة الثورة الجزائرية وشحنها بالبعد المغاربي، واتفقت تونس والمغرب على دعمها على كافة المستويات، وتسخير استقلالهما لخدمتها، وأصبحت بذلك كل طرفا في الحرب.
وأمام تزايد نجاحات وانتصارات الثورة الجزائرية، وهزائم وارتباك وتهور الحكومة الفرنسية، التي قامت بجملة من الحماقات، من أبرزها قنبلة قرية ساقية سيدي يوسف بولاية الكاف في 8 فيفري 1958، واستثمرت الحكومة التونسية هذه الحادثة بتدويل القضية الجزائرية، مستندة في ذلك إلى أن الحرب في الجزائر أصبحت تهدد السلم العالمي والمنطقة المغاربية.
وتسارعت الأحداث ودخلت كل من أمريكا وبريطانيا على خط المساعي الحميدة، كوسيط لتقريب بين الوجهات وحلحلة القضية الجزائرية، في هذه الظروف انعقد مؤتمر طنجة في افريل 1958، وقد ساهمت كل هذه العوامل في ميلاد الحكومة الجزائرية المؤقتة في سبتمبر 1958، واتخذت من تونس مقرا لها، وأخذت القضية الجزائرية منعطف آخر عبر المزاوجة بين السياسي والعسكري والإعلامي، وكسب الرأي العام الدولي والغربي عن طريق الإعلام، ليتم طرح مسألة حق الشعب الجزائري في تقرير مصيره في أعلى المنابر الدولية، وتُجبر فرنسا على الدخول في مفاوضات، أعقبها الاعتراف باستقلال الجزائر في مارس 1962.
لقد غيرت ملحمة الثورة الجزائرية، بحق، الخريطة الجيو- سياسية بالمنطقة العربية والإفريقية، باسترجاع الجزائر لسيادتها، وتثبيت الاستقلال التونسي والمغربي، وهزم الإمبراطورية الاستيطانية الفرنسية في كامل إفريقيا، ونالت العديد من الدول الإفريقية استقلالها تباعا، وأصبحت الثورة الجزائرية أنموذجا يحتذى به في الكفاح ضد كل أشكال الظلم والغطرسة واستعباد الشعوب، ودليل ذلك تنامي حركات التحرر في العالم بأسره. وبعد الاستقلال، انطلقت مرحلة البناء والتشييد الدولة الوطنية، والتي لم تكن سهلة، أبدا بسبب العراقيل والصعوبات والألغام والقنابل الموقوتة التي زرعها الاستعمار الفرنسي وتركها قابلة للانفجار، ومن بينها الملاحق السرية لاتفاقيات الاستقلال ومسألة الحدود والجهل والفقر، مما أثر على مشروع وحدة المغرب العربي الكبير، الذي ناضلت من أجله الحركات التحريرية والوطنية والحزبية المغاربية، ودعت إلى تجسيده على الأرض الواقع بعد طرد الفرنسيين، وبالرغم من المصالحة التاريخية الأولى في قمتي زرالدة ومراكش وتأسيس اتحاد المغرب العربي في فيفري 1989، بقى الاتحاد المغاربي يدور في حلقة مفرغة، بسب المشاكل الحدودية واختلاف بين الأنظمة السياسية.
وباعتبار الدولة الجزائرية وصية ومؤتمنة على رسالة الثورة الجزائرية ومبادئها وتجسيدها على أرض الواقع، ساهمت في كل الحروب العربية الإسرائيلية من أجل تحرير فلسطين 1967 و1973، ودعمت وساندت القضية والنضال الفلسطيني معنويا وماديا ودبلوماسيا، ووجهت دعوة إلى المنظمات الفلسطينية لزيارة الجزائر سنة 2022، والمشاركة في اجتماع الحوار المصلحة وترميم البيت الفلسطيني من الداخل، واحتضنت الجزائر الدورة 31 للقمة العربية من 1 إلى 2 نوفمبر 2022 في عيد الثورة الثامن والستين، وطرحت فيها تفعيل المبادرة العربية للسلام للحل الصراع الفلسطيني مع كيان الصهيوني في إطار الأقلمة، ورفضت التطبيع مع إسرائيل، وقد سبق أن تقدمت وطرحت مشروع لإصلاح بيت العربي، والمتمثل اعتماد مبدأ التصويت وتدوير منصب الأمانة العامة، وضخ وبث دماء جديدة في مؤسسة الجامعة العربية، ووضع خريطة طريق للمصالحة بين الإخوة والأشقاء الليبيين واليمنيين والسوريين، لوضع حد لسفك الدماء والدخول في مرحلة بناء الدولة الجديدة، يعيش فيها الأمن والسلام والاستقرار والرفاهية والتعايش والتوافق وألغت احتفالات بعيد الثورة التاسع والستين في الداخل والخارج نوفمبر2023، تضامنا مع الشعب فلسطيني في حربه التحريرية، وتبقى رسالة الثورة الجزائرية في بعدها العربي والمغاربي ودماء الشهداء الطاهرة حية، تنير الدرب والسبيل للأجيال القادمة في الوطن العربي والمغرب الكبير واليوم المقاومة الفلسطينية في حاجة إلى الاقتداء بالثورة الجزائرية واستلهام دروسها وعبرها، وقد ثبتت استقلال الدول واسترجعت استقلال الجزائر ووهبت الاستقلال للعديد من الدول الإفريقية.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!