-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

الحكم بالجهل..وجهل الحكم

الحكم بالجهل..وجهل الحكم

تكون سياسة التربية والتعليم من غير رؤية إذا لم يكن لمخرجاتها تأثير على مسار وتسيير شؤون الدولة، ليس فقط في المجال السياسي إنما في كافة المجالات حيث ينبغي أن يُرى ذلك في شكل سيادة للعلم والكفاءة على مستوى اتخاذ القرار، وفي شكل اعتماد واضح للأساليب العلمية في التسيير لتحقيق أعلى مردودية ومحاربة الفساد. هل حدث هذا وكيف ينبغي أن يحدث؟ ذلك هو سؤال اليوم والغد؟

رغم أن الدولة اعتمدت منذ الاستقلال خيار فتح باب التعليم للجميع وفرضت إجباريته ومجانيته، إلا أن التعامل مع مخرجات هذا القطاع كان في كل مرة يتم بريبة وشك، وكأنه لم تكن هناك قناعة لدى الحكم بأن هؤلاء المتعلمين يمكنهم أن يقودوا البلاد ذات يوم. لقد بقي هاجس الخوف من المتعلمين ساكنا بعض القادة ومازال إلى اليوم، ينظر لهم بشيء من الريبة والتوجس وكأنهم لا يصلحون سوى للانقياد، أما القيادة فذلك أمر ينبغي أن يبقى لذوي الخبرة والشجاعة وأحيانا المغامرة الأقدر على خوض غمار المجهول في كافة القطاعات وعل كافة المستويات، على حد زعمهم…

ويبدو أن جذور هذا الموقف تعود إلى  حقبة ما قبل الاستقلال عندما ظهر التمايز الواضح بين أولئك الذين يؤمنون بأولوية الفكر على العمل وكانوا يعتقدون في أن استعادة المجتمع لشخصيته ووعيه وقيمه الوطنية وإدراكه لمشروعه الحضاري ينبغي أن يسبق أي فعل ثوري ضد المستعمر بل ويعتبرونه أعمق فعل ثوري، وأولئك الذين أصبحوا مقتنعين أن الفعل الثوري هو أرقى وسائل التعبير عن الوعي بالذات والوجود ينبغي الشروع فيه وتحقيق الانتصار، أما بناء القاعدة الثقافية وبناء الشخصية الوطنية واستعادة مكوناتها فينبغي أن يأتي في مرحلة لاحقة ليصون ويُطور النتائج المترتبة عن هذا الفعل الثوري.

ولعل هذا ما حدث بالفعل، حيث تم تجاوز منهجية جمعية العلماء المسلمين، وحتى منهجية نخبة الحركة الوطنية التي تريثت في الإعلان عن الثورة رغم قناعتها بها (القيادة التاريخية للحركة الوطنية المتمثلة في مصالي الحاج وأعضاء اللجنة المركزية)، وتم تفجير الثورة باعتبارها لحظة وعي تاريخية ينبغي أن تستوعب كل التناقضات الفكرية وتؤجلها إلى مرحلة ما بعد الاستقلال.. وقد كان ذلك حقيقة لا شك فيها تجاوزت التناقضات والسلبيات التي عادة ما ترافق التنظير السابق للفعل، وانتصرت الثورة، ووجدت القيادة المنتصرة نفسها أمام  تحدي البناء الوطني الذي يتطلب رؤية وقدرة على التسيير كانت في أدنى المستويات: من يُشرف على بناء مؤسسات الدولة؟ ما هي الرؤية التي ينبغي تبينها؟ أي خيارات ينبغي أن تكون في مجال البناء الاقتصادي والاجتماعي: الليبرالية أم الاشتراكية؟ أية لغة ينبغي اعتمادها في التعليم العربية أم الفرنسية؟ أي نمط سياسي ينبغي أن نختار التعددية أم الأحادية؟  أي مكانة للدين في الحياة السياسية اللائكية أم الإسلام دين الدولة؟ وأية مكانة للمرأة والأسرة ضمن هذه الخيارات؟ وعشرات الأسئلة التي كانت تفرض نفسها وتضغط على المنتصرين في الثورة لأجل تقديم إجابات صحيحة وقادرة على أن تبقى صحيحة في المستقبل.

وكانت هذه لحظة فارقة في تاريخ الجزائر، حيث كان ينبغي أن يتم البحث عن إجابات لدى النخبة المثقفة سواء تمثلت في العلماء أو اليساريين أو الليبراليين أو ممن التزموا بالخط الوطني الذي حاول استيعاب كل هذه المكونات… وهنا برزت القيمة الكبيرة للمشاريع الفكرية التي كانت مطروحة قبل الثورة (العلماء) وأثناء الثورة (عبان رمضان)، إلا أنه بدل إيجاد تركيب متوازن بينها تم تحييد بعضها والاستعانة ببعضها الآخر بشكل مفرط،.. حيث استحوذت كوادر كانت تعتبر النقيض العضوي للثورة وجزء من الإدارة الاستعمارية بامتياز وأحيانا حتى عميلة للاستعمار  على أكثر من موقع وبخاصة في الإدارة الجزائرية، (انظر مغنية الأزرق نشوء الطبقات في الجزائر)، وقبلت هذه “النخبة” غير الوطنية بموقع الظل، وسايرت السلطة الثورية آنذاك في خياراتها من غير نقاش أحيانا مرسخة في الأذهان تلك الصورة التي مازالت لحد الآن عن النخبة بعد الاستقلال وعن المثقف والمتعلم بشكل عام، بأنه بنبغي أن ينقاد لا أن يقود وأن يجد مبررات لسياسات الآخرين لا أن يصنع هو سياسات ويسهر على تنفيذها.

ووجد بعض السياسيين هذا الوضع مريحا، فلم بعد يزعجهم أن لا تكون المدرسة الجزائرية في المقدمة، أو تبتعد الجامعة عن صناعة الإنسان وإنتاج الأفكار… وتم توريث هذه المنهجية لجيل من السياسيين أصبح  هو الآخر لا يؤمن بجعل العلم والكفاءة في المقدمة، إنما بأحقيته في القيادة بلا علم، بأحقيته في أن يكون على رأس الحكم وإن جهل أبجديات تسيير الحكومة، وإن قام بتسييرها بالجهل.

ونحن اليوم نعيش مرحلة مفصلية في تاريخنا الوطني تشبه مرحلة ما بعد الاستقلال مباشرة، إما أن تستعيد الكفاءة الوطنية المتجذرة في العمق الشعبي المبادرة وتتصدر قيادة مشروع البناء الوطني للعقود القادمة، أو تستأثر بها  قيادات رديئة تسعى للاستحواذ على الحكم أو تُدفع إلى ذلك ليبقى تسييره بيد ورثة الإدارة الاستعمارية أو من يرمز لهم ويمثلهم خير تمثيل… وهنا يتجلى دور النخبة الوطنية خريجة مدرسة الاستقلال التي تؤمن بأنها نابعة من رحم هذا الشعب ومن عمق مداشره وقراه وأحيائه الشعبية: إما تكون في مستوى الرهان الذي وضعها فيه الرجال المخلصون الذين فتحوا لها أبواب التعليم المجاني من الثوريين الحقيقيين الذين كانوا يريدون لأبناء هذا الشعب أن يتعلموا ويحكموا حقيقة بعد 50 سنة من الاستقلال أو أكثر،  أو تتخلى عن مسؤولياتها وتنسحب من الساحة خوفا  من مواجهة التحدي وتحمل المسؤولية التاريخية.

ولعل هذا ما ستبين مؤشراته المواعيد الانتخابية القادمة وما  ستدل عليه القيادات والقوى الجديدة التي ستنبثق عنها: إما قيادات مدركة لعمقها التاريخي ولطبيعة التحدي المستقبلي وقادرة على مواجهته بالعلم والعمل، أو قيادات تريد أن تكون في الواجهة من غير أدنى اهتمام بمن يقود، قابلة لأن تبقى في الحكم ولو حكمت بالجهل، مكرسة فكرة أن مدرستنا وجامعتنا ينبغي أن تقوما بتكوين منفذين لبرامج ومخططات لا  أن تُكَوٍّنَا قادة لمشاريع وصانعي سياسات…

ويبدو أن مكمن الداء والدواء هو هنا: أن نعيد التوازن  المفقود بين قادة الحركة السياسية والنخبة الوطنية العلمية بجميع مكوناتها هو الدواء، أو نحيّد هذه الأخيرة مرة أخرى ليحتل مكانها الأجنبي وريث الإدارة الاستعمارية بالأمس يخطط ويوجه من خلف الستار في موقعه المفضل باستمرار… الاختيار يبقى لنا جميعا.. ويمكن أن يُختزل في اختيار رئيسنا المقبل…

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
5
  • omarDZ

    اشكرك جزيلا يا استاذ لقد وضعت يدك على الجرح اظن ان الوقت قد حان لياخذ جيل الاستقلال زمام الامور لكن هل سيسلم له جيل من طاب جنانهم المشعل ام لا؟لقد نجحت السلطة في ان تطبق المقوله الشهيرة جوع كلبك يتبعك على المعلمين وجعلت من المتعلمين فئران تجارب.لكنني رغم هذا ارى ان هناك مساحة للامل في جيل من امثالكم جزائرييين وخريجي المدرسة الجزائرية رغم ما فيها من متناقضات

  • قادة

    3/من الأاكادميين والباحثين و العلماء والمثقفين في امورالدنيا والدين حتى لايترك مجال لغير المخلصين والغير المتعلمين والجهال و اشباه المثقفين من الحكام والمحكومين.الجزائرليست عاقر وفيها من الرجال الذين يمكنهم ان يرفعوا رايتها عاليةبين الامم اذا استطعنا ان نقضي حقيقة على مكمن الداءونقدم له مايستحق من دواء وهو ان نحيّد الأجنبي و و خائن الدار وريث الاستعمار الذي يخطط ويوجه جهارا نهارا و من خلف الستار وبلايتخذ قرارا الا اذا رجع لسادته من موقعه المفضل باستمرار وهو وراء البحار في بلاد ليوطار و برنار.

  • قادة

    2يجب يسبقه افكارتحددالاهداف وبعدها تبدأعملية تفهم المهام التي تؤدي بنا الى صنع القرار الذي به ننير طريق الخروج من الانفاق.فمن اجل صنع القراريجب ان يحضر شيء من الاستقراروما يساعد في بلورة الافكار ومايُتخذمن اجراءات للوصول الى جوهرالقرار الصائب الذي يحقق الهدف المراد.فهدفنا هو الاصلاح والتغيير وهما لايحتاجان لقدرة ليس لهانظير بل تحتاجان الى وعي الجميع ووقت وتخطيط وامكانات بشريةومادية ورجال صالحين لتخطيط و للتنفيذ والاشراف والمراقبة والتقييم وهم من المفكرين و مالكي ناصيةوالمعارف والعلوم الخبرات...

  • قادة

    1تكلمت عن اتخاذ القرارو القيادة وعدم الثقة بين الذين يعلمون والذين لايعلمون وكل ما له علاقة بتسيير امور البلاد و العباد. فبعد االاستقلال من استعمار الديار جاءنا استعمار الافكار و الذي مكن له من كنا نظنهم احارا من اصحاب شرعية محاربة الاستعمار و اخراجه من الديار لكنبدل الانعتاق من نير بيجار و نفاق ليفي برنار و ابن اصلهم وفصلهم ليوطار ها نحن نرزخ تحت سلطة تبع فرنسا من بيدهم امور تسيير شؤون هذه الديار و من يساندم في غيهم كفساد و تنيفيق الساسي و ارهاب وتكفير بن مختار.قبل اتخاذالقرار...

  • اسمهان

    رئيسنا المقبل مازلنا لحد الآن لم نعرف عنه شيئا،لا أسماء لمترشحين ولا سياسات يروج لها ولا مناهج ولا ولا ...الى متى يبقى ذلك مجهول،فنحن لم نر سوى زوابع وأبخرة عن الانتخابات ولم تتضح لنا الرؤية بعد،وكأننا فعلا في مرحلة مابعد الثورة،الا الأبخرة والدخان الأسود الذي يعتم الأجواء