-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع
بين مولود قاسم ومحمد أركون

الحلقة الثانية من “الكتاب الأبيض للثقافة في الجزائر”

أمين الزاوي
  • 6243
  • 0
الحلقة الثانية من “الكتاب الأبيض للثقافة في الجزائر”

من منا لا يتذكر، من منا لا يذكر ملتقيات الفكر الإسلامي التي كانت تعقد سنويا في الجزائر؟ كان العلماء والفقهاء والفلاسفة واللغويون والأدباء والمؤرخون من كل صوب وحدب يشدون الرحال كل سنة إلى مدينة من المدن الجزائرية التي تكون على موعد مع هذا الحدث الفكري والعلمي المتميز؟

  •  
  • كانت ملتقيات الفكر الإسلامي متميزة وجريئة في طروحاتها وفي إشكالياتها وفي من ينشطونها، ولعل الفضل يرجع في المقام الأول إلى من كان المايسترو في التنظيم والدعوة والحرص وأعني به الأستاذ مولود قاسم نايت بلقاسم (1927-1992)، المثقف ورجل دولة، كان جريئا في مواقفه غير متردد في إبداء رأيه بكل وضوح أمام خصومه قبل أعدائه. قد نختلف مع الأستاذ المرحوم مولود قاسم حول مجموعة من الأفكار والقناعات، لكن ما يجعلنا جميعا نكن له الاحترام والتقدير هو حرصه على جزائر ديناميكية فكريا وثقافيا. كان يرغب دائما في أن يرى هذه البلاد في مستوى حضاري تباهي به الدول في الشمال.
  • حين نقرأ تاريخ الثقافة في بلادنا في مرحلة السبعينات والثمانينات حيث الجزائر آنذاك كانت بلدا تنهج النهج الاشتراكي، والاشتراكية من ثوابت الأمة كما كان ينص عليه الدستور، إلا أن الحوار الفكري المتعدد الذي كانت تمثله ملتقيات الفكر الإسلامي بحواراته ومحاضراتها وندواتها التي ما فتئت تثير النقاشات العميقة وردود الفعل الفكرية من قبل هذا التيار أو ذاك، نقاشات وجدل كان يصل بالحديث مرات إلى حالة من الشتائم والغضب (دورة بجاية)، على الرغم من أن الاشتراكية كانت تعتبر ثابتا من الثوابت وعلى الرغم من هيمنة الحزب الواحد وعمل أحزاب معارضة في السر كحزب الطليعة الاشتراكية أو حزب القوى الاشتراكية إلا أن المجال الثقافي والفكري كان متفتحا وحيا.
  • لقد طرحت ملتقيات الفكر الإسلامي، على الرغم من الجو السياسي الموجه على المستوى الجزائري والدولي أيضا من خلال تحالف بلادنا آنذاك وتعسكرها داخل الكتلة الشرقية، على الرغم من كل هذا فقد تطرقت الملتقيات إلى مسائل فكرية شائكة وعميقة مثل الدين والسياسة، الدين والاشتراكية، العلمانية والاجتهاد وحوار الحضارات، وحوار الأديان وغيرها. بهذا استطاعت الجزائر الاشتراكية من خلال ملتقيات الفكر الإسلامي هذه أن  تكون في صدارة الحوار الجاد العربي الإسلامي والمتوسطي.
  • إن ما كان يعطي هذه الملتقيات الفكرية مصداقيتها وجديتها واحترامها أيضا إضافة إلى هامش الحرية في الطرح هو ذلك الحضور النوعي من رجالات الفكر والفلسفة والدين والتاريخ الذين كانوا ينشطون هذه المواعيد، إذ كان الرأي متعددا والقول والفكر متنوعين دون إقصاء أو حجر.
  • ولأنه كان موعدا لدراسة وتدارس الفكر الإسلامي فقد كان على المشرفين، بما حملوه من عمق في الفكر، توسيع الدائرة ليشمل التناول الديانات الأخرى التي تعايشت ولا تزال تتعايش مع الإسلام في التاريخ والجغرافيا والحضارة واللغة من هنا كانت الملتقيات عبارة عن موعد لحوار الديانات والأديان المقارنة دون تكفير أو تخوين.
  •  كانت ملتقيات الفكر الإسلامي موعدا متميزا لأنها كانت أيضا عبارة عن ملتقى لعلماء وفهماء الديانات جميعها، فلم يكن هناك إقصاء يذكر إذ كان يدعى إليه المسلمون بكل طوائفهم العقائدية وبكل أطيافهم السياسية: اليبراليون والماركسيون والإخوان المسلمون، وكان يحضره مسيحيون كاثوليك وبروتستانت، وكان يحضره علماء يهود أيضا. ولم يكن السيد الوزير مولود قاسم نايت بلقاسم، وهو وزير الشؤون الدينية والأوقاف في بلد اشتراكي، لم يكن ليمنع المحاضرين من إبداء الرأي الذي كان يصل حدود الاختلاف البين والمتنافر أحيانا ما بين المحاضرين، ولم يكن يتهمه أحد بإثارة الفتنة.
  • من صور حرية التفكير وتعددية الرأي في ملتقيات الفكر الإسلامي، أنه كان يحضرها الفيلسوف والإسلامولوجي الجزائري البروفيسور محمد أركون وهو وجه من الوجوه الجريئة في الطرح والاجتهاد الفكري والفلسفي، كان يحضر ويحاضر ويناقش ويجادل ويتجادل ويبدي برأيه ويصارع المتطرفين في القاعة من كل الجهات والتيارات دون مرض الخوف أو مرض الجهل. لم تكن الجزائر الثقافية والفكرية تضيق ذرعا بأفكار محمد أركون، بل كان تواجده فيها خيرا لها وعليها.
  • كان محمد أركون على صلة وقتها ببلده صلة ثقافية وفكرية، والجزائر وقتها تحت النظام الاشتراكي والحزب الوحيد، وأما واليوم، وبعد أن تفتحت الساحة السياسية وتعددت القنوات والرؤى، ها هو محمد أركون يرفض أو لا يحب المجيء إلى بلده لإلقاء محاضرة في الجامعة أو في أي مؤسسة ثقافية. والغريب في الأمر أن محمد أركون يلبي دعوات كثيرة تقدم له من بلدان عربية وإسلامية أقل انفتاحا من الجزائر، يسافر إلى كل أصقاع الدنيا من تطوان إلى طهران لإلقاء محاضرات دون تردد أو خوف أو تخوف.
  • لماذا تغيرت المواقف، وما الذي يجعل محمد أركون يرفض أو يعزف عن المجيء إلى بلده  الجزائر؟
  •  إن بلادنا تتمتع بحرية تعبير معتبرة مقارنة مع ما تعيشه دول أخرى في الجوار الجغرافي أو السياسي. أكيد أن التجربة الديمقراطية لا تزال فتية وهو ما يجعل الساحة الثقافية والفكرية والدينية تفرز من حين لآخر بعض الأصوات الشاذة التي لا تزال تعتصم بتهم التكفير والتهويد والتخوين لإخفاء عجزها في الحوار وضعفها في محاججة الرأي المغاير، منصبة نفسها وصية على الدين أو الثقافة أو الفكر. وأعتقد أنها أصوات لا تعبر مطلقا عن الرأي العام الثقافي والفكري في هذه الجزائر التي أنتجت ابن باديس ومولود قاسم وعبد المجيد مزيان وبشير حاج علي ومفدي زكرياء ومحمد أركون ومحمد حربي وعبد الله شريط ومصطفى الأشرف وآخرين. إن حرية التعبير والديمقراطية مكسب لا رجعة فيه ولا تراجع عنه، وهذا منطق التاريخ الذي لا يعود إلى الوراء.
  • إن عزوف محمد أركون أو تردده أو خوفه من المجيء إلى الجزائر محاضرا ناتج عن غياب محاور فكري في جزائر الألفية الثانية من عيار مولود قاسم نايت بلقاسم أو عبد المجيد مزيان.
  • إن استعادة الجزائر لأبنائها من أمثال محمد أركون ومحمد حربي وأحلام مستغانمي ونبيل فارس ومحمد فلاق وفضيلة الفاروق وإلياس زرهوني وكمال صنهاجي وغيرهم، استعادة رمزية، هو دون شك تكريس لصورة بلادنا المعاصرة والتي لا يمكنها أن تطور وتحافظ على التعددية السياسية في غياب تعددية فلسفية وفكرية وثقافية.. إن مفكرا بحجم محمد أركون والذي حتى الآن وفي كل مرة تمثل محاضراته حول الفكر الإسلامي أو الفلسفة الإسلامية يلقيها في كبريات الجامعات والمؤسسات الثقافية في أوروبا وأمريكا،  حدثا فكريا ينتظره الجميع باحترام وتقدير حتى وإن كان هذا الاحترام ممزوجا بحق التحفظ الفكري لدى البعض.
  • إن مكانة محمد أركون في راهن التفكير الفلسفي الإسلامي لا تساويها سوى مكانة المفكر والفيلسوف المناضل الفلسطيني إدوارد سعيد (1935-2003) صاحب كتاب “الاستشراق”. حين اختلف المفكر إدوارد سعيد مع السلطة الفلسطينية حول اتفاقيات أسلو لم يكفر الفلسطينيون مفكرهم بل احترم الجميع رأيه بمن فيهم الرئيس الفلسطيني موقع معاهدات أسلو المرحوم ياسر عرفات. إن الاختلاف في الرأي لا يعني العداوة، خاصة حينما يجيء هذا الاختلاف من مفكر أو مبدع من مرتبة محمد أركون أو إدوارد سعيد يريان العالم من زاوية غير زاوية السياسي.
  • الآن ونحن نعاين ما يجري في الحقل الثقافي والفكري الجزائريين نقول وبصوت عال:  لكم نحن بحاجة إلى عودة الأستاذ مولود قاسم نايت بلقاسم كي يستقبل أركون في جزائر معاصرة متعددة ومعافاة وهو الذي استقبله في السبعينات واستقبل إلى جانبه جاك بيرك (1910-1994) ومحمد عمارة (وهو الإسلامي الماركسي آنذاك) وعثمان الكعاك وعلال الفاسي وحسن حنفي وموريس بوكاي والمهدي المنجرة وغيرهم من علماء الشرق والغرب وإفريقيا.
  • إن الضيافة الفكرية التي كانت تقدمها الجزائر الاشتراكية آنذاك لم تكن ضيافة وعدات أو “زردات” على حد تعبير مولود قاسم، إنما كانت حلقة من الحلقات الأساسية في بناء الحوار المتوسطي في أبعاده المختلفة الثقافية والدينية والسياسية. وأعتقد أنه لو تم تطوير تجربة ملتقيات الفكر الإسلامي برؤية أكثر معاصرة لكانت الجزائر والمغرب العربي بمنأى عن كل أمراض التطرف السياسي يمينا أو يسارا.
  •  إن استقبال المفكرين من طينة محمد أركون على كل ما له من خصوم أشداء، هو رفع هامة الجزائر الكبيرة الواحدة في المختلف وهو في الوقت نفسه تبديد مرض الخوف من الثقافي أو ما أسميه بـ “الثقافوبيا“.
  • إن انغلاقنا وتحجرنا وضرب الأسوار العازلة من حولنا بحجة تحصين الذات هو الذي يساهم في نشر ثقافة الخوف من الرأي الآخر. وبهذا الانغلاق وبهذه “الثقافوبيا” نساهم في  اغتيال الجزائر الجديدة ونقطع عن أجيالها الجديدة طريق الانخراط في الحلم الإنساني الجديد ونرمي بهم في البحر نصنع منهم حراقة “فوق قوارب الموت.
  • إن محاربة ثقافة الخوف من الآخر لن تتحقق إلا عبر حوار مع هذا الآخر مع واجب الدفاع عنه مختلفا عنا، وحده طريق الانفتاح على الآخر دون الذوبان فيه يعيد للمثقف والمواطن الثقة في النفس. الانفتاح على المختلف عنا هو الذي يعطي قيمة، يعطي للمواطنة وجودا ثقافيا واجتماعيا وسياسيا.
  • لكم هو استعجالي وضروري أن نجعل العالم من حولنا يطمئن لجزائر الثقافة والفكر والإبداع ولن يكون ذلك ممكنا إلا باحترام الحوار ومحاربة ثقافة التكفير والتخوين  والتهريج على السواء، لذا لكم نحن بحاجة إلى مولود قاسم جديد ليبدد عنا هذه “الثقافوبيا“.
  • أمام فقدان الثقة بالنفس ثقافيا والذي يجعل ثقافتنا تتراجع أمام الثقافات الأخرى لكم نحن بحاجة إلى وجه عقلاني آخر واحد من سلالة ابن رشد وأعني به الأستاذ عبد المجيد مزيان (1928-2001) والذي تولى حقيبة وزارة الثقافة وكان أول رئيس للمجلس الإسلامي الأعلى جمع، قبل أن يرحل، وبكل جرأة المفكر الجميع حول جزائر أخرى جزائر ممثلة في وجه آخر من وجوه أبنائها ألا وهو “سان أوغستين” فعلمنا بذلك العمل الجريء في دلالاته درسا عظيما هو: كم هي غنية ومتنوعة ومتعددة في وحدتها هذه البلاد التي نعيش عليها ولها، الجزائر.
  • لم تحفظ لنا ملتقيات الفكر الإسلامي صورة عن الجزائر المتعددة والقابلة للتعدد في وحدتها فقط بل حفظت لنا أيضا عيون الشعر الجزائري، ففي هذه الملتقيات أنشد شاعر الجزائر الأول مفدي زكرياء إلياذة الجزائر، وفي هذه الملتقيات أيضا قرأ الشاعر محمد الأخضر السائحي أجمل قصائده وقرأ كثير آخرون. فكما كانت هذه الملتقيات للنقاشات حول الدين والفلسفة والتاريخ واللغة والاجتهاد كانت أيضا للجمال أي للشعر.
  • دون نوسطالجيا ثقافية، من يا ترى يعيد مثل تلك الأيام؟
  •  
أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!