-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع
مقدّمة حركة القرآن المجيد في النّفس والمجتمع والتّاريخ

الحلقة (12): لماذا لم يفسّر النبيّ القــرآن المجيد؟ 

أبو جرة سلطاني
  • 908
  • 0
الحلقة (12): لماذا لم يفسّر النبيّ القــرآن المجيد؟ 

مع كثرة الأسئلة لم يفسّر النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- كلام الله تعالى، واكتفى بتوضيح معاني بعض الآيات القليلة التي سُئل عنها أو أراد تجليتها لمن حوله وسكت عن باقيها ليظلّ الإسلام كتابًا مفتوحا على حركة الحياة، ويظلّ لكلّ جيل حظّه في قراءة كتاب الإسلام بلسانه وأدواته وأقضيته، ولا يتحوّل إلى “قوالب جامدة” وأوامر صارمة وقرارات جافّة تشبه القوانين الوضعيّة. فلو حصل ذلك لتمّ التّشريع لزمن الصّحابة والتّابعين ثمّ أقعتْ نصوصُه عاجزة عن فتح أبواب الاجتهاد بشروطه للاّحقين إلى قيّام السّاعة. والحمد لله أنّ الرّسول -صلّى الله عليه وسلّم- لم يفعل ذلك ولم يأمر به صحابته ولم يكلّف أحدا بتوطئة القرآن للنّاس حتّى لا يكون ذلك سببا في غلق باب الاجتهاد في كلّ ما بتّ السّابقون بشأنه حكما، وما على اللاّحقين إلاّ السّمع والطّاعة. ولم يفعل السّلف ذلك لأنّ الله تعالى أرد لهذا الدّين أن يكون ربانيّا مرِنا واقعيًا متحرّكا مع حركة الحياة في النّفس والمجتمع والتّاريخ. أراده دينًا حيًا حاضرًا في ضمائر المؤمنين وفي بصائرهم، دينًا يقظا متفاعلا مع أقضية الوجود ومع جمال الحياة، يبدّد الشكّ باليقين والغفلة بالذّكر والكبْر بالتّواضع والرّغبة في الدّنيا بالعمل لما بعد الموت.

فالتّجديد لا يعني طلب الجديد، وإنما يعني إعادة قراءة القديم قراءة جديدة بفهم متحرّك للنّص في النّفس وليس ابتداع نصًّ جديد كما كان يرغب كبراء مكّة ومشركوها من رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- شرْطا ليؤمنوا: ((وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآَنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ)) (يونس: 15)، فردّ الله تألّيهم عليه ومنّهم على رسوله بالقول: ((قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ)) (يونس: 15). لم يبدّل رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- القرآن ولم يفسّره، إنما حرّكه في نفوس من حوله فصهرهم فيه حتّى أيقنوا أنّ الله -جل جلاله- يكلّمهم ويراهم وهم يرون ملائكته تقاتل معهم في “غزوة بدر” ويشمّ بعضهم ريح الجنّة فلا ينتظر حتّى يكمل أكل تمرات كانت بين يديه وهو يسمع رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- يقول: “قوموا إلى جنّة عرضها السّموات والأرض”، وفي تمامها قال عمير بن الحُمام الأنصاريّ: يا رسول الله جنّة عرضها السّموات والأرض؟ قال: “نعم”. قال: بَخٍ بخٍ. قال رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-: “ما يحملك على قول بَخٍ بخٍ؟”، قال: لا والله يا رسول الله إلاّ رجاء أن أكون من أهلها. قال: “فإنّك من أهلها”، فأخرج تمرات من قَرَنه فجعل يأكل منهنّ ثم قال: لئن أنا حييْت حتّى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة، فرمى بما كان معه من التّمر، ثم قاتلهم حتّى قُتل. (رواه مسلم عن أنس -رضي الله عنه- في شهداء غزوة بدر)، وغيرها كثير.

من معاني التّجديد تأويلُ كلام الله بضوابط التّأويل وشروطه وليس التماس فهم مبتسر أو بحث عن “قرآن جديد” يكتبه بعضُ النّاس بأيديهم ثم يقولون: ((هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا)) (البقرة: 78)، كما فعلت بعض الأحبار والرّهبان بكتب الرّسل السّابقين. فالتّجديد يعني تُرك باب الاجتهاد -فيما ليس فيه نصّ قطعيّ- مفتوحا في مجالات تدبير شؤون الحياة، وفي ما يستجدّ للنّاس من أقضيّة في معاشهم وما يطرأ عليهم من نوازل دون مساس بكلّيات الدّين وأصوله وثوابته، وما تعلّق بالعقيدة والعبادة والحلال والحرام والأخلاق والقصص. فلو فسّر رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- القرآن كلّه لانقضت عجائبُه وجمدت نصوصُه وتأكّدت أحكامُه النّهائية وصار “تراثا” أو كتابًا تاريخيّا لا يفرّق النّاس فيه بين كمال النّصّ، كلماتٍ وألفاظًا، وبين التّدرّج في تطبيق أحكامه وإنفاذها، فهمًا وممارسة. لو فُسّر القرآن جملةً واحدة بلسان المصطفى -صلّى الله عليه وسلّم- لصار الإسلام قالبا أرثوذوكسيّا جامدا، من دخل فيه فهو مسلم ومن لم يسعْه فهو خارجٌ عن دائرة الإسلام! ولكنّ رحمة الله -جل جلاله- بالبشريّة أوسع من حشْر العقل الإنسانيّ في زمن له شروطه وظروفه وأدواته ومقاصده في الاستخلاف والتّمكين. فمع كلّ هذا الإلحاح يوجد في كلّ زمان من ينادي البشريّة إلى طيّ الزّمن والعيش في جلباب القرن الأوّل، أو القرون الثّلاثة المشهود لها بالخيريّة، وهو حقّ أريد به باطل.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!