-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع
مقدّمة حركة القرآن المجيد في النّفس والمجتمع والتّاريخ

الحلقة (21): القرآن حياة والحياة حركة

أبو جرة سلطاني
  • 569
  • 1
الحلقة (21): القرآن حياة والحياة حركة

يتكرّر السّؤال مرّة أخرى: لماذا لم يفسّر الرّسول -صلّى الله عليه وسلّم- القرآن واكتفى ببيانه للنّاس: ﴿وأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ولَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ (النّحل: 44)، والجواب المختصر: أنّ مهمّة رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- البلاغ والبيان وتفصيل الأحكام. والقرآن كتاب هداية وأصول وكليّات.. وهو وحي الله -جل جلاله- إلى رسوله -صلّى الله عليه وسلّم- الذي لا ينطق عن الهوى لإنفاذ ما فيه وبيان حقيقته وتفصيل مجمله.. روى أحمد والدّارمي وابن ماجة وأبو داود والتّرمذي وابن أبي شيبة وغيرهم، واللّفظ لأحمد عن المقداد بن معدي كرب الكندي -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-: “ألاَ إنّي أوتيت الكتاب ومثله معه، ألاَ إنّي أوتيت القرآن ومثله معه؛ ألاَ يوشك رجل ينثني شبعانا على أريكته يقول: عليكم بالقرآن؛ فما وجدتم فيه من حلال فأحلّوه وما وجدتم فيه من حرام فحرّموه. ألاَ لا يحلّ لكم لحمُ الحمار الأهلي ولا كلّ ذي ناب من السّباع، ألاَ ولا لُقَطة من مال معاهد إلاّ أن يستغني عنها صاحبها، ومن نزل بقوم فعليهم أن يُقْروه فإن لم يقروه فلهم أن يُعقِبوهم بمثل قِراهم”، وفي البخاري وأحمد وابن ماجة وغيرهم عن أبي رافع -رضي الله عنه- عن النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- قال: “ألا لا ألفينّ أحدكم متّكئا على أريكته يأتيه الأمر من أمري؛ مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول: لا ندري ما وجدنا في كتاب الله اتّبعناه”. فما صحّ من حديث رسول الله يعدّ وحيًا، واتّباعه طاعة لله الذي أمرنا بإتّباع رسوله: ﴿وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ (الحشر: 7). فلا سبيل لفهم الكتاب إلاّ بالسنّة تفسيرا وشرحا وتقييدا وإنفاذا.

بيّن رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- لأمّته ما لا يتمّ الواجب إلاّ به وما لا بدّ للمؤمنين من علمه بيانا شافيًا، وترك لهم الاجتهاد في بيان ما يطرأ عليهم من قضايا. والصّحابة -عليهم الرّضوان- كانوا عمليّين لا يسألون كثيرًا خشية أن يأتي السّؤال بما يثْقل التّكاليف، وكانوا يحْجمون عن الفُتيا خوفا من أن لا يبلغوا بعلمهم واجتهادهم ما يُنقل عنهم للنّاس صحيحا إذا جانبهم الأصوب حتّى لو أدركوا باجتهادهم الصّواب في التّأويل، لما صحّ عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: “كان الرّجل منّا إذا تعلّم عشر آيات لم يجاوزهنّ حتّى يعلم معانيهنّ والعمل بهنّ”، وفي حديث ابن عطيّة عن عائشة -رضي الله عنها) قولها: “ما كان رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- يفسّر إلاّ آيًا بعدد (آيات معدودات) علمّه إياهنّ جبريل”.  بمعنى أنه -صلّى الله عليه وسلّم- لم يكن يفسّر القـرآن تنظيرًا إلاّ ما يصله من جبريل -عليه السّلام- تعليما من ربّه -جل جلاله- لحاجة الناس إليه، وهو رسول أنزٍل عليه الوحي، ليظلّ القـرآن مفتوحًا على العصور القادمة إلى قيام السّاعة. وكان الصحابة -عليهم الرّضوان- يتحرّجون من التّأويل، والتّابعون يغلّظون القول في التّفسير. ومنهم من إذا سُئل قال: لا أقول في القرآن شيئا. أو يسكت كأنْ لم يسمع، كما كان يفعل سالم بن عبد الله والقاسم بن محمّد وسعيد بن المسيّب واللّيث بن سعد. وكان الشّعبي يقول: ثلاث لا أقول فيهنّ حتّى أموت: القرآن والرّوح والرّأي. خشية التّأويل.

لكنّ القرآن نفسه يخبرنا أنّ الله -جل جلاله- أنزله مطلقا لحكمة يعلمها، فلم يقيّده رسوله -صلّى الله عليه وسلّم- ليظلّ نصّا حيّا متحرّكًا بأمر الله في النّفوس والجماعات والمجتمعات والدّول وفاعلا بإذنه في التّاريخ والحضارات. وحتّى الآيات المعدودة التي فسرهنّ المصطفى -صلّى الله عليه وسلّم- لم يكن تفسير معظمها  تفسيرَ اجتهادٍ تطوّعَ به رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- من تلقاء نفسه وإنما كانت غالبيّتها تصويبات لاجتهاد صحابة جانبهم الصّواب في تأويلها، أو ظنّوها نازلة بمناسبة تخصّهم أو لتقويم سلوك صدر عن بعضهم في فترة كانوا يتحرّكون فيها تحت سمْع الحقّ -جل جلاله- وبصره، والرّسول -صلّى الله عليه وسلّم- يتولّى تربيتهم وتوجيههم وتقويم سيرتهم وإقالة عُثارهم وإشعارهم أنّ الله معهم يسمع ويرى: ﴿قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ﴾ (المجادلة: 1).

فتفاعلوا مع التّنزيل بكثير من المراقبة والانضباط واليقين، وتلقّوا أوامـر ربّهم ونواهيه كما يتلقّى الجنديُّ الأمـر القتالي اليومي للإنفاذ وليس للإعلام والتّثقيف والاستزادة في المعرفة النّظريّة الباردة. فإذا أخطأ الجنديّ الفهمَ عن ربّه، أو نبَا سلوكُه قوَّمه رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- بما عصمه به ربُّه بسداد الحقّ، مثلما هو الحال عندما بيّن لعديّ بن حاتم -رضي الله عنه- أنّ الخيط الأسود والخيط الأبيض في فقه الإمساك، خلال شهر رمضان المعظّم، وسائر أيام صوم النّوافل، هما اللّيل والنّهار وليسا الخيوط التي كان يضعها تحت وسادته قبيل النّوم ويظلّ يتفقّدهما ليتبيّن السّواد من البياض! كما سيأتي بيانه إن شاء الله.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
1
  • هابة

    وهل نرى ذلك في الواقع؟