-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع
القرآن كلام الله المنزّل من السّماء

الحلقة (22): بشرية النبي صلى الله عليه وسلم

خير الدين هني
  • 409
  • 0
الحلقة (22): بشرية النبي صلى الله عليه وسلم

كان النبي -صلّى الله عليه وسلّم- الذي نزل عليه القرآن الكريم بشرا كسائر الناس، لا يختلف عنهم في خَلْق ولا خِلقة ولا طبيعة ولا سَجيّة؛ خُلق من طبيعة آدمية في صبغته الجسدية والعقلية والوجدانية والسلوكية، ولم يُخلق من طبيعة إلهية كما يقول النصارى عن عيسى عليه السلام، أو من نورانية ملاكية كما أراد أن يكون عليه المشركون، أو من ماهية جنّية كما يحب ذلك الكهنة والعرافون.

وكان -صلّى الله عليه وسلّم- يعيش مع الناس في بيئتهم الطبيعية والاجتماعية والثقافية واللغوية، ولم يتميز عنهم في فترة ما قبل نزول الوحي، بأي تميّز بدني أو عقلي أو بفصاحة أو بلاغة أو لذاقة أو حكمة، إلا ما كان من تميزه -عليه الصّلاة والسّلام- في السلوك والأخلاق والآداب، وهي صفة يشترك فيها الكثير من فضلاء الناس وأخيارهم من الزهاد والوعاظ والنساك والحكماء، لقوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ﴾ (الكهف:110).

وبعد أن كان -صلّى الله عليه وسلّم- متخلّقا في الجاهلية بفضائل الأخلاق المتبقية من دين الأنبياء والرسل وجده إسماعيل عليهم السلام، زاد عليها بعد التنزيل بمكارم أخلاق القرآن الكريم، إيمانا وعملا وقولا وامتثالا للأوامر العليا المنزلة عليه من السماء، ولذلك نوّه الحق سبحانه بأخلاقه -صلّى الله عليه وسلّم- التي بلغت الكمال في الإيمان والتقيّد والتنفيذ، ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ (القلم: 4)، وبما رأته عائشة -رضي الله عنها- من خلقه حين سئلت عنه، في الحديث المروي في صحيح مسلم، “كَانَ خُلُقُ نَبِيِّ اللَّه الْقُرْآنَ”.

وقد عاش -صلّى الله عليه وسلّم- بين ظهرانيهم أربعة عقود كاملة، ولم يفارقهم في حِلّ ولا ظعْن ولا سفر، ولم يتلق أي نصيب من القراءة والكتابة والعلم والتثقيف، وفجأة بعدما بلغ الأربعين من عمره، فاضت قريحته (القريحة هي الطبيعة التي جبل عليها الإنسان في تفكيره وإدراكه وأخيلته)، بالفهم والعلم والحكمة والبلاغة، وأتى بالعجب العجاب من الكلام المركب في أنساق بديعة، وعجيبة في معانيها وتراكيبها وبيانها، وعلى غير ما ألفوه وعرفوه في فنون كلامهم، وأشعارهم وخطبهم وحكمهم ومواعظهم، وهو الأمر الذي يقدم لنا البرهان القاطع على أن وراء ذلك سرّا خفيا، تدركه العقول النيرة والفطر السليمة والنفوس المستقيمة، وهي رسالة النبوة التي تأتي من السماء، على من اختارهم الحق سبحانه لرسالته المقدسة.

وقد جاءت السور القصيرة، وبعض السور الطويلة، من السور المكية والمدنية، في أول التنزيل مركبة تركيبا مسجوعا، بفواصل (الفاصلة هي الكلمة التي تنتهي بها الجملة المسجوعة، بوزن وروي على نحو ما ورد في خطبهم وأشعارهم وحكمهم)، قصيرة ومتوسطة وطويلة،، ولكن سجع القرآن رغم أنه جاء على صيغ ما ألفوه في سجعهم، إلا أنه جاء على غير سابق مثال، في حسن التأليف وبديع التركيب وجميل التنظيم وإشراقة البيان ووضوح المعنى، وهو غير مسبوق فيما ألفوه أو قرؤوه أو سمعوه، من شعرائهم وخطبائهم وكهانهم وحكمائهم، وقد شكّل تحديا معجزا للمشركين في مكة وأهل الكتاب والمنافقين في المدينة، ولما نزل القرآن مسجوعا وهَلَ إلى عقول المشركين أن النبي -صلّى الله عليه وسلّم- اقتفى أثر الكهان في تسجيع كلام أسماه القرآن، كي يجذب إليه الناس ويسيطر على عقولهم، بتلك الأسجاع التي كان لها وقع جميل على النفوس، وزاد عليها بخلق عالم غيبي افتراضي غير معروف فيه جنات من أنهار تفيض ماء ولبنا وعسلا، وحور عين حسان أبكار تسر الناظرين، مما جعل الفقراء والمعدمين والبؤساء وأراذل الناس يتبعونه، وغرضه هو امتلاك أمر قريش والتسيّد عليها ومن بعدها يسود العرب ويجعل الجميع تبّعا له، فنزل القرآن الكريم يبطل دعواهم ويفحم أباطيلهم، ويتحداهم بأن يأتوا بعشر سور مما اعتقدوا أنه من تأليف محمد -صلّى الله عليه وسلّم- ودعاهم إلى الاستعانة بمن يشاؤون ممن يعتقدون فيهم القدرة على الإتيان بمثل القرآن، ثم خفّف عنهم بأن يأتوا بسورة واحدة إن ساورتهم الشكوك في مصدر القرآن وأصله، قال تعالى: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ (هود: 13)، وقوله: ﴿وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِين﴾ (البقرة:23).

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!