-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع
مقدّمة حركة القرآن المجيد.. في النّفس والمجتمع والتّاريخ

الحلقة (24): ما فائدة تفسير جديد؟

أبو جرة سلطاني
  • 445
  • 0
الحلقة (24): ما فائدة تفسير جديد؟

إذا أردنا أن نضرب مثلا للفهم قلنا: إنّ القرآن هو مولِّد الطّاقة (أو هو مصدر النّور) والتّفاسير مصابيح مضيئة ليبصر المدلجون المعالمَ التي على طريق النّور. فالقرآن هو مصدر الطّاقة ومنبع النّور، أما اجتهادات العلماء في فهمه فهي أقباسٌ من وهجه وأنوار من فيضه. والقرآن بحر لجّي وما يؤخذ منه، غَرفة من سواحله أو غمسة في شواطئه. ولك أنْ تتأمّل قصّة موسى -عليه السلام- في صحبة الخضر -رضي الله عنه- لتدرك أنّ من صنعه الله -جل جلاله- على عينه لم يستوعب مشهد خرْق سفينة وقتل غلام وبناء جدار، ولم يصبر على أكثر من هذه المشاهد الثّلاثة ليفهم مقاصدها أو مشيئة الله فيها، فكيف بمن دونه علما وفهما وورعا وتقوى؟

  • هل يستوعب العقل حكمة إنقاذ سفينة بخرقها؟
  • كيف يكون قتلَ غلام رحمةً بوالديْه؟
  • ومن يدرينا أنّ ترميم جدار لقوم بخلاء حمايةً لأموال يتامى؟!

ذلك شيء من هدي القرآن الكريم الذي لا يعرفه كثير ممّن لا صبر لهم على حكْم الله حتّى يُحْدث لهم منها ذكرا: ﴿ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا﴾ (الكهف: 82)، ولو أنّ موسى -عليه السلام- صبر أكثر من ثلاثٍ لتعلّمنا من رحمة الله أكثر مما تعلّمنا، وقل مثل ذلك عن يوسف -عليه السلام- عوقب بحُلم رآه فألقاه إخوته في بئر ليتخلّصوا منه، فحملته يدُ الأقدار إلى قصر العزيز، وسُجن ظلما لتبرئة من لم تكن نيّتها بريئة، فأرى الله بعلها حلما كان سببا في خروجه من السّجن وتحقيق حلمه وإدارة خزائن مصر ومجيء إخوته يسألون الإيفاء في الكيل والتّصدّق عليهم، وتحقّقت رؤياه: ﴿وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأو يلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا﴾ (يوسف: 100). فقصص القرآن ليست قصّا للتّسلّي إنما هي مواعظ للتّأسّي وعبرة لأولي الألباب ومناهج للاهتداء والاقتداء: ﴿وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ (يوسف: 111).

نعيد طرح السؤال الذي يطرحه كثير من المهتمين بالدّراسات القرآنية: ما الفائدة المنتظرة من صدور تفسير جديد يضاف إلى مصفوفات كثيرة في خزائن العلم وعلى رفوف المكتبات العالمية؟ وهل الأمّة اليوم بحاجة إلى كل هذا الكم من التفاسير؟

جوابنا التقليدي سبق بسْط بعض عناصره في ثنايا هذه المقدّمة، وخلاصته المفيدة: أن لكلّ جيل حظّه من فهم كتاب الله، وأنّ الأزمنة تتغيّر، فتتغيّر معها مضامين اللغة والفهم والاستيعاب، فتصير كثير من ألفاظ القرآن المجيد غريبة على سمع المتلقّي، ومثال ذلك كلمات: الكادحين. الإرهاب. القوامة. الضرب. العدّة. السيارة. ملك اليمين. الفاسقين. الصدقة. الزكاة. الربا. الزنى. الحد. العبيد. وحديث التركات والمواريث…

ففي ظاهر ما يفهم منها بثقافة عصرنا، ظلم للقرآن الكريم وتجنٍّ على كلام الله، فتحتاج إلى تجديد فهم يخلّصها من الابتسار والارتهان والعسف والفهم السّقيم إلى رحابة ما نزلت به في سيّاقها وفي ظروفها وفي بيئتها.. وليس بالمفهوم الصّحفي الغالب على لغة عصرنا (فالسيّارة الذين التقطوا يوسف من الجبّ كانوا رُحّلا كثيري الأسفار؛ فهم أنفسهم “سيّارة” ليس لهم مركب سوى خيولهم وإبلهم ودوابهم)؛ فألفاظ القرآن الكريم تحمل مضامين “بيئة إيمانية” بلسان عربيّ مبين لا تُفهم إلا باستصحاب بيئتها وملابساتها ضمن السياق الذي وردت فيه، وهو ما يقودنا إلى تجديد فهمنا لكلام الله. ومثال ذلك فهمنا للمعجزة.

كيف نفهم معجزة الحوت الذي التقم نبي الله يونس -عليه السّلام-؟ والنار التي لم تحرق نبي الله إبراهيم -عليه السّلام-؟ والطّير التي هزمت أبرهة الحبشي الأشرم بحجارة من سجّيل؟ وعصا موسى -عليه السّلام- التي أذلّت فرعون في عقر داره، وكانت سببا في إيمان سحرته، وفجّرت اثنتي عشرة عينا وشقّت البحر؟ كيف نفهم سرّ النّملة التي ضحك سليمان -عليه السّلام- من كلامها؟ والميت الذي ضُرب ببعض لحم بقرة فعادت له الحياة ودلّ على قاتله ثم مات؟ والحوت المجفّف الذي اتّخذ سبيله في البحر سربا؟

كلّ هذا جزء من الجواب التقليدي عن سؤال: ما فائدة تفسير جديد؟ أما الجواب المتحرك مع النّفس والمجتمع والتاريخ فأوسع من هذا وأعمق، وخلاصته في مثال دقيق -والأمثلة كثيرة- هو حديث القرآن المجيد عن حركة الأرض بثلاث صيغ متكاملة: فعندما يتحدث الوحي عن تحويل القبلة يقرّر أن لله المشرق والمغرب، فهو مشرق واحد ومغرب واحد. وعندما يتحدّث عن آلاء الله يجعل للبشريّة شروقين وغروبين، فالله -جل جلاله- ربّ المشرقين وربّ المغربين.

وعندما يُقسم بعزّته وجلاله يُقسم بالمشارق والمغارب.. وهذا هو حظّ التفسير الجديد من الفهم الذي يلتقط هذه الفوائد ويعرضها على أدقّ ما توصّل إليه البحث العلمي ليخاطب جيل الكشوفات العلميّة والأجيال اللاّحقة بمعجزة القرآن المجيد التي تضع كلّ كلمة في سياق دقيق لم يكن للأسلاف به علم، فلمَّا تراكمت جهود البشريّة عرفنا الفرق بين هذه المستويات المعرفيّة فضمّنناها في هذا السّفْر المبارك لنزداد بها إيمانا ونزداد بقرآننا فخرا ونقول لخصوم هذا الدّين: هذا خبر ما عندنا فما خبر ما عندكم؟

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!