-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

الخطأ

الخطأ

هنري باربيس Barbusse Henri من الكتّاب الفرنسيين القلائل الذين تتميّز إبداعاتهم بنكهة خاصة، تتسم بأصالة التفرد وتنبذ التكرار والمسوخ المشوّهة، خاصة فيما يتعلق بوصف فضائع الحرب. ولا بأس أن نعرّف بإيجاز شديد بهذا الكاتب.

دخل هنري باربيس عالم الصحافة وعمره لم يتجاوز السادسة عشرة. تأثر في أعماله الأولى بإميل زولا، وبدا ذلك واضحا في روايته “الجحيم”1908 . انخرط متطوّعا في صفوف المقاومين خلال الحرب العالمية الأولى، ووصف وقائعها وأهوالها في رائعته “النار” 1916 التي نال عنها جائزة الغونكور . ثم نشر روايتي “الضياء” و”القيود”، حيث عبّر عن اختياراته السلمية. انظم إلى الأممية الشيوعية، وأقام بموسكو فترة طويلة، وتوّفي ودفن هناك. وقيل آنذاك أن ستالين سمّمه.

لم أعثر فيما بحثت عن أيّ إشارة تدل على زيارة هذا الكاتب إلى بلادنا، ولم يصدر عنه أيّ موقف يدين الاحتلال الفرنسي لبلادنا رغم مواقفه المندّدة بالاستعمار وشرور الحروب. إلا أن الجزائر ظهرت في قصته الجميلة “الخطأ” التي ترجمتها ونشرتها في أسبوعية “الشروق الثقافي” في أفريل 1994 . والخطأ في هذه القصة هو “شعور بالذنب”، وهو كما يعرّفه فرويد “حالة عاطفية تتلو فعلا يعتبره الشخص مدعاة للملامة، رغم أن تبرير هذه الملامة قد لا يكون ملائما من مثل ندامة المجرم أو توبيخ الذات بشكل غير معقول”.


نجتزيء للقارئ الفقرات الخاصة بالجزائر

“حدثت المأساة التي عليّ أن أعترف بها… كنت جنديا في طابور حملة عسكرية في عمق جنوب وهران. وتمّ اختياري حارسا في طرف غابة، قرب معسكرنا. وأمرت بإيقاف كلّ من يحاول المرور من هنا، مهما كلّف الثمن.

في اللون الرمادي والدافئ للفجر هزّني صوت خفيف، ولمحت أمامي فارسا عدوّا متوّقفا على بعد عشرين مترا.

كان منتصبا على ركابه العريضة، ويده ممدودة أمام وجهه الشرس المكشر المنتبه. وكان المحارب العظيم المتوّحش يتقصى الطريق دون أن يشك في حضوري. وكان جواده الأبيض الحرون يرتعش فوق سيقانه الرشيقة. كان ينظر إليّ بعيون غزالة. وفجأة انطلقا على الطريق الذي كنت أحرسه. انخفضت بندقيتي الجاهزة وخضعت لي. سدّدت صوب الجواد، لكن شيئا أقوى مني، أقوى من كلّ شيء جعل سلاحي يرتفع ويسدّد إلى أعلى. انطلقت الرصاصة، استمر الجواد في عدوه، لكن الانسان هوى.


ما جدوى تفاصيل ما حدث بعد ذلك. بقيّ لي أن أقول ما يلي

أعرف أني ارتكبت جريمة. فقد كان في إمكاني أن أحافظ على حياة ذلك الآدمي من دون أن أخرق الأوامر. أعرف… أعرف كلّ ما أستحقه من جحد. أعرف كلّ ما يمكن أن يقال ضدي. فقد شعرت بذلك في اللحظة التي رأيت فيها ذلك العربي يتهاوى محرّكا يده، وكأنه يحاول أن يتشبث بالسماء.


إذا، لماذا، لماذا؟

وإني الآن أحاول كما في السابق بشغف، لكن بتسرع أكثر، بحيوية أكبر، أن أشرح نفسي لنفسي، وأن أعرف أكثر عن نفسي

لكني لا أوفّق… ومع ذلك فإن لي بصيصا صغيرا أهتدي به… أعتقد أن هذا الميل الذي جعل الاستغاثات الصغيرة، بالنسبة إليّ، أكثر عدوى من غيرها سببه بساطة المخلوقات الدنيا التي أحببتها إلى حد الموت، بساطتها المطلقة، بساطتها الخارقة للعادة.

إن دماغي وقلبي، مثل أدمغتكم وقلوبكم، مثل كلّ أدمغتنا وقلوبنا، عاجز عن فهم الناس تمام الفهم، الناس معقدون جدا.

كثيرة هي الأمور التي تشوّش وتذهل النظرة الأولى التي تلقيها عليهم، وهم يخفون أكثر مما يعلنون عن أنفسهم. لكن الحيوانات تتركك تنظر إليها وجها لوجه. وأنا أستطيع من الآن أن أهجّي القليل من الأشياء غير المتناهية التي تنطوي عليها نظراتها، فبمجرد أن تظهر حتى تكشف عن معجزة الحياة ومعجزة العذاب. وإذا كانت نظراتها مؤثرة فلأنها مفتوحة واسعة، ولأن الحقائق العميقة المشتركة بينها تتجلى هنا أكثر من تجليها عند الآخرين. إذن هنا يكمن تفسير توّجه شفقتنا، منذ صغرنا، نحوها بإلحاح قبل أن نفكر في الآخرين. ذلك أن الشفقة، وهي أعظم المشاعر الإنسانية، جعلت من الفهم والنور!.

سيأتي يوم يفهم فيه قلبنا القلوب الغنية والقلوب الفقيرة على السواء… وإني أبارك المستقبل الأفضل من الحاضر، لكن فليغفر لي خطئي المكفر عنه بندم جم. إنه ليس النقيض، وإنما كان فقط هو بداية الحقيقة.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!