-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

الدكتور فاضل صالح السامرائي.. صاحب التخريجات البيانية القرآنية الفريدة

لمباركية نوّار
  • 4760
  • 1
الدكتور فاضل صالح السامرائي.. صاحب التخريجات البيانية القرآنية الفريدة

القرآن الكريم هو معجزة الإسلام الخالدة. والروح الجوهرية في هذا الإعجاز هو اللغة العربية الشريفة بذخائرها اللفظية وبيانها الأخاذ الساحر. وستظل هذه المعجزة العظمى تتجدد مشعة لا تخبو ولا تنطفئ، ولا تنقضي غرائبها، ولا تفنى عجائبها، وتزيد ولا تنقطع أو تحد. ولا غرو، إذن، إن رأى بعض العلماء أن تفسير القرآن الكريم لفهمه وكشف مستبطناته يمكن أن تعاد في كل عصر من العصور وفق رؤية جديدة تختلف عن القراءات التي سبقتها.

تشعبّت التخصصات في دراسة علوم القرآن الكريم، وسارت في مسارات متعددة من شروح مستفيضة إلى وقوف عند إعجازاته العلمية ومدارساته المعمقة من حيث الجانب البلاغي البياني. ولهذا سيبقى كتابا ملهِما وموحيا لكل من يبحث عن بلوغ مراتب الفهم القوي إن أحسن إنعام التحديق في آياته بقلب حاضر وعقل مستبصر ناظر.

إن التفكير في أبنية تراكيب البيان القرآني هو الموضوع الذي يشغل بال الدكتور فاضل صالح السامرائي في أغلب أوقاته. وقد سمعته مرة يذكر أن تخريج تعبير بياني قرآني شغله لمدة ستة أشهر، وأن تخريجا آخر عاش يتقلب في ذهنه لمدة سنة كاملة! وتمكن في الأخير من فك سرِّيهما المكنونين. ومثلما رُزق حدّة ودقّة التفكير العلمي فقد أوتي الصبرَ وطولَ البال وتحمّل مشاق التدقيق للوصول إلى غاياته المعرفية.

في مقال ظريف مليء بالتلميحات الواخزة وسمه كاتبه بعنوان: “لماذا يهرب المسلمون من الإعجاز اللغوي للقرآن الكريم؟”، أورد فيه من القول ما يلي: (ناقش العديد من علماء المسلمين الإعجاز اللغوي، ومن أهمهم عبد القاهر الجرجاني في كتاب: “دلائل الإعجاز”، ومحمد بن الطيب الباقلاني في كتاب: “إعجاز القرآن”. وهي كتب تحتاج معرفة كافية بعلم النحو، لأنّها تبني عليه، مع إعادة التذكير بضرورة دراسة الشعر الجاهلي دراسة متأنِّية دقيقة، وفهم بلاغته وبيانه وصوره ومجازه وتراكيبه وأوزانه، لفهم أين كانت العرب؟ وماذا أضاف القرآن للغتهم؟ وكيف أعجزهم؟. وينبغي لمن قرر أن يفهم الإعجاز القرآني حقّا أن يعرف قبل أن يبدأ أنّها مهمة لا تناسب قصيري النفس وضعيفي الجلَد والباحثين عن تصوّر ما لمعجزة جاهزة -وليس بالضرورة أن يفهموها- قُدِّمت لهم في آية تحمل ما هو أكثر إعجازًا من ذلك).

أوقف جهده العلمي ووقته الدكتور المِصْقَع صاحب العلم الرصين والفهم المتين والفصاحة الطلقة والبليغة فاضل صالح السامرائي (وكنيته: أبو محمد) للغوص في أعماق الآيات القرآنية بعلمه الغزير وفكره المُضيء، والبحث عن درر الإعجاز البياني في كتاب الله، وصنّف في هذا المجال عدة كتب لا تمل قراءتها، منها كتاب: “لمسات بيانية في نصوص من التنزيل” وهو كتاب فريد تهاطلت عليه الإشادات من كل جانب، وما تزال تتوالى تباعا، وكتاب: “من أسرار البيان القرآني”، وكتاب: “على طريق التفسير البياني”، وغيرها…

ما يزيد حبل الأسى والتأسف اشتدادا على رقاب قلوب الكثيرين هو أن كتب الدكتور الحبيب فاضل صالح السامرائي يصعب الحصول على نسخ ورقية منها. فهي مفقودة في مكتباتنا، وإن نزلت برفوفها فلا تمكث طويلا حتى تختفي لكثرة طالبيها. وعندي أن الفعل والتفاعل الانقرائيين لا يكتملان مع مضامين متون كتبه إلا إذا كانت في يد قارئه نسخٌ أصلية منها. وأما المستنسخات عنها ونظيراتها الإلكترونية فلا تجلب لمن يعود إليها اكتمال الرغبة وإتمام المتعة حتى وإن كان له من جني الفائدة المعرفية حظ ونصيب لا يستهان بهما.

يتحدّث الدكتور فاضل صالح السامرائي بلسان شيّق عذب وجاذب، ويكتب بأسلوب حلو بسيط ومغر، وخال من الألفاظ الصعبة التي تستوقف مستمعه أو قارئه إلا نادرا. وإن حصل ذلك، فإن استلال فهمها واردٌ من خلال السياقات العامّة للجُمل أو الفقرات التي وردت فيها ولو تصدى فيها لمسائل لغوية شائكة ومغلفة بالاستبهام والتعقيد، ويبتعد عن الاسترسال والترادف. ولا يجد حرجا إن كرر نفس الكلمات على مسافة قريبة رغم قدرته على الابتعاد عن ذلك والإتيان بأحسن منها. فهو رجلٌ ضرب في اللغة بسهم كما يقولون، وفارس متبحر في علومها، ولا يُشق له غبار.

لا يدّعي الدكتور فاضل صالح السامرائي سبقا في أي شيء يأتي به، ولا يضم إلى نفسه حيازة قصب النصر لآرائه. وهو شديد التواضع، ولا يقبل أن يكال له المديح رغم أنه أحق به. وحتى لما ينهي مقدمات كتبه، يسقط من إمضائها ذلك الحرف التي يتخذ منه كثيرون لازمة لأسمائهم، ويجعلون منه متكآت للرفعة، وإنما يكتفي بذكر اسمه مجردا من رتبته العلمية.

في مقدمة كتابه: “لمسات بيانية في نصوص من التنزيل”، كتب يقول: (قال لي بعضهم بعد أن اطلع على كتاب: “التعبير القرآني”، لو أسميته: “الإعجاز القرآني”. فقلت له: هذا العنوان أكبر مني، وأنا لا أستطيع أن أنهض ببيان الإعجاز القرآني ولا شيء منه. وإنما هو دراسة في بيان شيء من أسرار التعبير القرآني العظيم الذي لا تنتهي عجائبه).

واستطرد في مقدمة نفس الكتاب يقول: (إن هذا الكتاب، وكذلك الكتاب الذي قبله ـ أعني كتاب: “التعبير القرآني”ـ ليس في بيان الإعجاز القرآني، وليس هو خطوة واحدة في هذا الطريق، وإنما هو خطوة في طريق قد يوصل السالك إلى طريق الإعجاز أو شيء من الإعجاز).

وختم هذه المقدمة بقوله: (إنما هي دلائل أضعها في الطريق وإشارات وصُوى، وشيء من خافت النور في مصباح ناضب الزيت، غير نافع الفتيل، عسى الله أن ينفع بها سالكا، ويجنّب العثار ساريا في الليل البهيم، فتنالنا منه دعوةٌ صالحة تنفعنا في عرضات القيامة).

ومما قاله في مقدمة كتابه: “من أسرار البيان القرآني”: (لقد بذلتُ جهدي في أن لا أكون متعسِّفا فيما عرضت له. ولا أدّعي أني لم أقع في شيء من ذلك، بل ربما وقعت، ولكني لم أتعمد ذلك. وقد حاولت جهدي أن أنأى عن التعصب للنص وتحميله ما لا يحتمل. وكنت مقتنعا بما قلته وقررته).

وأضاف إلى ما سبق في المقدمة ذاتها السطور الموالية: (وعلى أيِّ حال، فهي محاولة أخرى في هذا المجال تضاف إلى أخواتها من المحاولات السابقة. وأرجو من القارئ العزيز أن يعذرني فيما وقعت فيه من هنات وأغلاط، أو يحسب أنني وقعت فيه، فذلك مبلغنا من العلم).

وكمن ينبّه قرّاءه وعشاق كتبه، وهم كثر، دوّن في ختام مقدمة كتابه: “على طريق التفسير البياني” سطرين قال فيهما: (ولا يذهبنَّ بك الظن أنني أدّعي أن استنباطاتي وتوجيهاتي كلها صحيحة سديدة، بل ذلك ما هداني النظر إليه والتأمل فيه).

نكتشف من خلال ما جاء على ذكره الدكتور فاضل صالح السامرائي في كتابه: “من أسرار البيان القرآني” الطريقة التي يعلّم بها طلابه. وهي طريقة فيها من الابتكار التحديثي ما يجعلها مخالفة تماما للطرائق التقليدية، وفيها ينتقل من المواقف التعليمية المملة والجافة التي لا تشرك المتعلمين إلى طريقة ممارسة فعل التعلم الذي يجعل منهم شركاء حقيقيين ومحاولين نشطاء على كسب المعارف اعتمادا على قدراتهم. وفي هذا السياق يقول: (كنت، وأنا ألقي المحاضرات على طلبة الدراسات العليا، آتي بنصٍّ قرآني، ثم أقول لهم: ماذا لو أبدلت هذه الكلمة بهذه الكلمة التي تبدو كأنها مرادفة لها؟. وماذا لو قدمت هذه الكلمة أو أخرتها عن مكانها؟. وماذا لو زدت هنا في التوكيد أو نقصت؟. ثم آتي بنصين يكادان يكونان متماثلين إلا في أمور يسيرة، فأقول لهم: ماذا لو جعلت هذه الكلمة في النص الآخر، وجئت بتلك إلى هنا؟ ما الذي سيحدث؟ فيسكتون، وكأنهم يقولون: لا شيء في ذلك. ثم نبدأ بتحليل النص ووضعه في سياقه واستذكار القواعد اللغوية، ثم أقول لهم: الآن، لنغيِّر في النص، فيصيحون جميعا بلا استثناء: مستحيل، يا أستاذ، مستحيل. إنها معادلة جبرية، لا يمكن… إنها رياضيات، لا يمكن، لا يمكن. فأقول لهم: فمن قائل هذا الكلام؟ فيقولون بتأثر بالغ: إنه الله، إنه الله).

لا يظهر الدكتور فاضل صالح السامرائي في أحاديثه التلفزية الشيقة والمشوقة إلا مبتسما وبشوشا. ولما كان متفوقا بيداغوجيا فقد نقل هذا العلم الممزوج بشذرات من الفن من المدرجات إلى الاستوديوهات التي يقابل فيها عن طريق البث التلفزي عامة الناس. ويريد في كل حلْقة من حلقات برامجه أن يكون حديثه السلس إجابة عن سؤال محدد يصوغه صوغا دقيقا في البداية. وأحيانا يولد من رحم سؤاله الأساسي سؤالا أو سؤالين ثانويين لتبسيطه وتقريب مطلبه من الأذهان.

إن التفكير في أبنية تراكيب البيان القرآني هو الموضوع الذي يشغل بال الدكتور فاضل صالح السامرائي في أغلب أوقاته. وقد سمعته مرة يذكر أن تخريج تعبير بياني قرآني شغله لمدة ستة أشهر، وأن تخريجا آخر عاش يتقلب في ذهنه لمدة سنة كاملة! وتمكن في الأخير من فك سرِّيهما المكنونين. ومثلما رُزق حدّة ودقّة التفكير العلمي فقد أوتي الصبرَ وطولَ البال وتحمّل مشاق التدقيق للوصول إلى غاياته المعرفية.

إن الفتح الذي أنار الطريق أمام بصر وبصيرة الدكتور فاضل صالح السامرائي بفضل الله، سبحانه وتعالى، هو فتح عظيم. فاللّهم أحفظه، وأطل عمره، وزده.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
1
  • الرأسمالية و الإشتراكية الإسلامية

    احب قراءة هذا العمود ..لأنني أشعر بالسعادة أن مستوى النخبة المعربة يعكس حقيقة أن البلد لن يرى النور أبدا