-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

الدولة الوطنية تعود بقوة

الدولة الوطنية تعود بقوة

أكدت تجربة التحوُّل في السلطة التي عرفها العالم في العقد الأخير وبخاصة في المنطقة العربية، أن لا مناص من وجود دول وطنية قوية ومتماسكة لاحتلال مكانة مرموقة بين الأمم والتحول إلى الفاعلية بدل الجمود. راهن الغرب على نقل نموذجه التعددي في بقية العالم وفشل في ذلك، بل إن ارتدادات هذه المحاولة بدأت اليوم تظهر في شكل اضطرابات داخلية وانقسامات حادة تحدث داخل بلدانه.

تعيش الولايات المتحدة الأمريكية كما فرنسا وبريطانيا ويعيش الكيان الإسرائيلي ذات المرض، وبدرجة أقل باقي البلدان الغربية. بات واضحا اليوم أن التجربة الديمقراطية الغربية التي حاولت تعميم ذاتها على العالم أصبحت هي ذاتها تعاني الخوف من التفكك والاندثار ولا تجد مخارج ملائمة للأزمات العديدة التي تعرفها (ما يحدث في فرنسا اليوم). خلافا لذلك وجدت الدول المركزية مثل الصين وروسيا وإيران نفسها في مواقع أقوى من حيث القدرة على المناورة وتحقيق المكاسب. وأبرزت المبادرة الروسية بالقيام بعمليات عسكرية في “دونمباس” قدرة الدول الوطنية على اعتماد سياسة الهجوم كأحسن وسيلة للدفاع. ومن المُرَجَّح أن تؤكد الصين هذا التوجه في  التعامل مع تايوان، وذات الشيء بالنسبة لإيران مع الكيان الصهيوني. يعجز هذا الأخير لحد الآن على المبادرة باعتماد سياسة الهجوم كعادته لتخويف خصومه، ويتخبط اليوم في الحديث عن أسلوب “الأخطبوط” الذي يعني استهداف خصومه من الداخل بعد أن فشل في استهدافهم من الأعلى (جوا) كما كان يفعل دائما. ذات السلوك (المتخبط) تقوم به كل من بريطانيا والولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي كافة في أوكرانيا. لم يعد بإمكانهم اعتماد سياسة الهجوم كما كانوا يتنمَّرُون باستمرار في السابق، على العراق ويوغوسلافيا، وأفغانستان وليبيا وسورية… لقد تحولوا في المدة الأخيرة إلى العمل التخريبي من الداخل أو إلى ما يُسمُّونه بسياسات العقوبات التي يراهنون على جعلها تُضعف الخصم إلى حين انهياره ذاتيا. إلا أن هذا الأسلوب باتت محدوديته واضحة، فلكم قاومت إيران العقوبات، ولكم ستُقاوم روسيا أكثر. الأمر الذي يُبيّن ضعف مثل هذا السلاح القديم الجديد في ظل عالم متشابك يصعب التحكم في الحركة عبر طرقه المعروفة وغير المعروفة إن في الجوانب الاقتصادية أو غيرها.

يبرز لنا هذا الوضع أهمية الحرص على تعزيز دولنا الوطنية من خلال تقوية اللحمة الداخلية، وابتكار أساليب جديدة لإدارة المشكلات المعتادة التي قد تعرفها. ولعل هذا ما تحاول الجارتان تونس وليبيا وكذا السودان اليوم القيام به بعيدا عن كل حديث عن الانقلاب عن الخيار الديمقراطي أو التعددية الحزبية أو المراحل الانتقالية. لقد بات واضحا فشل الغرب في نقل نموذجه الديمقراطي المتهالك إلى الشرق، وإن بدا الثمن الظاهر للعيان اليوم هو عودة مظاهر حكم الاستبداد، بل إن الغرب اليوم ذاته يعاني من مشكلة تتعلق بوحدة كياناته الوطنية جراء التشرذم الكبير الذي نتج عن  انحلاله الديمقراطي غير المحدود. وما التحولات الراهنة والمستقبلية في كل من فرنسا والكيان الصهيوني وقريبا في الولايات المتحدة وبريطانيا سوى دليل على ذلك. إننا نعيش بداية نهاية النخب الغربية التقليدية التي حكمت باسم الديمقراطية كما نبَّه لذلك الرئيس “بوتين” في خطابه في 17 من جوان الجاري بـ”سان بترسبورغ”.

إننا نعيش اليوم بداية تحول حقيقي في أشكال السلطة والنظم السياسية. ولم تعد الديمقراطية الليبرالية تقدم لنا الأجوبة الصحيحة. ينبغي أن نعول على أنفسنا في ذلك. وتراثنا فيه من العمق ما يكفي، حتى لا تكون دول ليست بأقدم تجربة سياسية مِنَّا حقلا إرشاديا لنا، بل نحن الذين سنقدم في القادم من العقود، بديل الدولة الوطنية الناجحة ليس فقط لجيراننا إنما لمنظومة سياسية جديدة بدأت تلوح معالمها في الأفق، وتفتح لنا مجال الأمل واسعا في المستقبل..

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!