-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

الدولة كمطلق علماني

بقلم: محمد ذياب
  • 341
  • 0
الدولة كمطلق علماني

لفظ الدولة من بين المفردات المترجمة التي حملت تحيزات معرفية كبيرة في ثناياها مع أنها كلمة لا تتجاوز أربعة أحرف في مبناها، لكن هذه الأحرف القليلة كانت كافية لحمل دلالات علمانية عميقة جرى تعليبُها بالكامل في مصطلح “الدولة” لتكون جاهزة للاستهلاك ثقافيا وإعلاميا وأكاديميا لدى العقل العربي والإسلامي، وعن طريق الدولة وأدواتها البيروقراطية جرى نشر بقية المطلقات العلمانية.

وقبل أن نبدأ في تفكيك المحتوى العلماني الكامن في مفهوم الدولة كما ورثناه من تراث الغرب ومقارنته بمفهوم الدولة كما نتلمسه في لغة القرآن، لابد من الرجوع إلى المعنى الغربي لمصطلح الدولة أولا، وسنبدأ مع المعنى المنحدر من القرن السابع عشر بتأثير الكلمة الفرنسية Etat المنحدرة من الكلمة اليونانية Status  والتي تعني الوقوف والثبات. وغير بعيد عن هذا المصدر اشتُقت مرادفات الدولة في اللغات الأوربية الأخرى من الجذر اليوناني نفسه؛ ففي اللغة الألمانية تسمى Staat بينما تسمى State في اللغة الإنجليزية، ومن الجذر اليوناني ذاته أيضا اشتُقت الكثير من الكلمات التي تدلّ على الثبات والتوقف والاستمرار على وضع واحد، ومن ذلك مثلا كلمة Statue في اللغات الثلاثة الألمانية والإنجليزية والفرنسية، التي تعني النصب أو التمثال المصنوع من مادة صامتة وثابتة لا تتحرك.

ولا يهمنا الآن الخوض في التعريفات السياسية والقانونية للدولة التي تنصبُّ في الغالب على تعريف الوظائف التي تقوم بها الدولة وشكلها القانوني، لكن ما نريد التنبيه إليه في هذا المقال هو الصورة المجازية للدولة في الوعي الغربي منذ قيام الدولة الحديثة في القرون الأخيرة، فهناك صورتان مجازيتان متقابلتان للدولة تعكسان المكوّنين الكبيرين في الثقافة الغربية بعد عصر الإيمان المسيحي. هاتان الصورتان تمثلان كلا من العقلانية التنويرية لغرب أوربا والرومنسية اللاعقلانية لأوربا الجرمانية.

الدولة عند التنويريين هي آلة لتنظيم المجتمع، والتصور الآلي التنويري ينعكس في تفسير كل شيء بما في ذلك تفسير الإنسان، ومن هذا التصور الآلي تولدت كل العلوم الاجتماعية والمذاهب الوضعية لتفسير الظواهر، لكن المفكرين الجرمانيين كانوا يرون بأن الدولة ليست آلة وليست أداة، ولو كانت الدولة آلة لفكر الناس في استبدالها، لكن شيئا من ذلك لم يحدث، ولهذا رأوا أن الدولة هي انبثاقٌ لقوة أصلية غامضة لا يمكن فهمُها، وهي تملك قوة وسلطة ذات بُعد لاهوتي عميق، يقول آدم مولر Adam Heinrich Müller : “إن المسيح لم يمت فقط لأجل الأفراد بل لأجل الدول” وهي عبارة متطرِّفة جدا لكنها تكشف عن التصور الكامن في أعماق اللاعقلانية الجرمانية ودوره في تأليه الدولة حتى أفرز في الأخير النموذج النازي والفاشي.

القرآن الكريم تحدّث عن الحكم ولم يتحدث عن الدولة ومن ذلك قوله تعالى: “إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّواْ ٱلْأَمَٰنَٰتِ إِلَىٰٓ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ ٱلنَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِٱلْعَدْلِ” النساء 58، وقوله عز من قائل: يَٰدَاوُۥدُ إِنَّا جَعَلْنَٰكَ خَلِيفَةً فِى ٱلْأَرْضِ فَٱحْكُم بَيْنَ ٱلنَّاسِ بِٱلْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ ٱلْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ ٱللَّه” ص 26، وغيرها من الآيات الكريمات التي لا يتسع المكان لذكرها.

في الجانب الآخر وُلد التصور الآلي للدولة، ذلك الوحش البارد العلماني الذي يشبه مارد المصباح في قصص ألف ليلة وليلة أو اللفياثان (Léviathan) حسب تعبير توماس هوبز Thomas Hobbes في كتابه الشهير الذي يحمل هذا العنوان، وهو كائنٌ خرافي له رأس تنين وجسد أفعى استعاره هوبز للتعبير عن سلطة الدولة وجبروتها، فالدولة وفق التصور التنويري وحشٌ جبار في خدمة من يمتطي ظهره ويملك زمامه. ولعل هذا التصوُّر هو الذي جعل ماركس يصبّ جام غضبه على الدولة ويصفها بأنها خُلقت لتكون في خدمة الطبقة الأقوى.

ومن هنا ندرك أن الفكر الغربي في مجمله يرى الدولة وفق رؤيتين تبدوان من حيث الظاهر مختلفتين، لكنهما تلتقيان في كونهما رؤيتين علمانيتين إحداهما غنوصية حلولية تذيب الإله في الدولة وهي الرؤية الجرمانية الوجودية، والأخرى رؤية ميكانيكية آلية بيروقراطية تخدم من يضغط على الأزرار ليبقى مصير الشعب دائما تحت رحمة النخب التي تتولى مقود الآلة. وما يجمع الرؤيتين معا هو الطبيعة المطلقية للدولة؛ أي أن الدولة في الوعي الغربي هي كيانٌ كامل مكتمل بذاته؛ أي أنها حقيقة نهائية لا يمكن تحويرها أو تعديلها فهي أما أن تكون “روحا” وفق التصور الهيغلي أو تكون “طبيعة” وفق التصور التنويري. والروح والطبيعة لا يمكن للبشر تحويلهما أو توقيف مسارهما أي أنهما مطلقان علمانيان.

لكن ماذا عن التصور الإسلامي للدولة؟

حاول الكثير من المفكرين المسلمين ممن خفي عنهم النموذجُ المادي العلماني الكامن وراء التصوُّر الغربي للدولة ونظر فقط إلى الجانب القانوني والدستوري للدول الحديثة وحاول أن يُنطق القرآنَ الكريم بما ليس فيه، ليُظهر أن الدولة الحديثة بشكلها الموجود في الغرب لها جذورٌ في القرآن الكريم، لكن واقع الأمر يثبت أن القرآن الكريم لم يتكلم عن الدولة تماما لكن تكلم عن الحُكم، بل إن الجذر “دول” الذي اشتقت منه كلمة دولة في المعاجم العربية الحديثة لتصبح مقابلا لمصطلح State ومرادفاتها في اللغات الغربية لا يفيد بالمرة معنى السكون والاستقرار والثبات والصنمية والمطلقية الذي يفرزه الجذر اليوناني Status. جاء في لسان العرب لابن منظور: “قال الزجاج : الدُّولة اسم الشيء الذي يُتداول، والدَّوْلةُ الفعل والانتقال من حال إِلى حال… وقالوا دَوالَيْك أَي مُداوَلةً على الأَمر… وتَداولته الأَيدي: أَخذته هذه مرَّة وهذه مرَّة،.ودالَ الثوبُ يَدُول أَي بَلِي “. فما يُؤخذ من كلام العرب أن الجذر (دول) وما يشتق منه يدور كله على معنى التحول والدوران والتبدل ومنه قوله تعالى “وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِآل عمران الآية 140، وقوله سبحانه “كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ ” الحشر الآية 07، أي كي لا يبقى المال دائرا في حلقة واحدة بين الأغنياء منكم فقط بل لا بدّ له من الحركة في دوائر أخرى حتى ينال منه الفقراء.

ومن هنا نفهم أن القرآن الكريم تحدّث عن الحكم ولم يتحدث عن الدولة ومن ذلك قوله تعالى: “إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّواْ ٱلْأَمَٰنَٰتِ إِلَىٰٓ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ ٱلنَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِٱلْعَدْلِ” النساء 58، وقوله عز من قائل: يَٰدَاوُۥدُ إِنَّا جَعَلْنَٰكَ خَلِيفَةً فِى ٱلْأَرْضِ فَٱحْكُم بَيْنَ ٱلنَّاسِ بِٱلْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ ٱلْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ ٱللَّه” ص 26، وغيرها من الآيات الكريمات التي لا يتسع المكان لذكرها. ولهذا خلص محمد عبد الله دراز في كتابه القيم “دستور الأخلاق في القرآن” أن القرآن الكريم يدور حول ثلاث قيم أساسية ينبغي أن تقوم عليها حياة المؤمنين بغضِّ النظر عن شكل المؤسسات القائمة، هذه القيم هي: العدل والحرية والمسؤولية. ومن هنا نخلص إلى أن التشبُّث بشكل الدولة وتقديس الخرائط الاستعمارية عند العرب والمسلمين، ليس سوى أثر من آثار الرؤية العلمانية التي تسرّبت إلى عقولنا ومنعتنا من أن نفكّر كأمة تواجه أخطارا وجودية في ظل تشرذم قُطري لا يساعد على أيِّ وحدة ضد الأشكال المستقبلية من الهيمنة والاستعمار الجديد.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!