الرأي

الروائي الذي تمنى أن يكون مجرما كبيرا!

أمين الزاوي
  • 5029
  • 28

ما أكتبه في هذا المقال قد وقع بالحرف، تماما بتمام، مرات ما يحدث في واقعنا أكثر غرابة مما نتخيّله، وما أرويه لكم حكاه لي الروائي نفسه، وهو بطل هذه الحكاية.

هو روائي شاب، موهوب حصل على جائزة رئيس الجمهورية للشباب المسماة “علي معاشي”، كان ذلك قبل بضع سنوات، حصل عليها في جنس الرواية، خجول ولكنه جريء، له تجلياته وخرجاته وله شيطانه، بعد حصوله على الجائزة، كان يتمنى أن يكون “ديك” مدينته التي لا تبعد إلا بضع كيلومترات عن العاصمة، مدينة سميت مرقد العاصميينdortoir des algérois.

حكى الروائي بعظم لسانه ما يلي: …ولأنني متوّج بجائزة رئيس الجمهورية، التي حزنت أنني لم أتسلمها من يدي الرئيس نفسه لأنه بكل بساطة لم يحضر المراسيم، ولكنني قلت في نفسي، على كل هي جائزة كبيرة لأنها تحمل اسمه، منذ الإعلان عن الجائزة لم يتوقف هاتفي عن الرنين، مكالمات من الأصدقاء وأولاد الحارة وأبناء القرية وأصحاب الدكاكين وحتى الحلاق كلمني مهنئا، ولكن المكالمة الهامة هي تلك التي جاءتني من صحفية متميزة تشتغل في واحدة من أكبر الجرائد التي تصدر في بلادنا، كانت ترغب في إجراء حوار مطول معي، اتفقنا على أن يكون الموعد بمقر الجريدة حتى نضمن وجود المصور المحترف لأخذ صور كثيرة، فالجريدة في مثل هذه المناسبات النادرة بحاجة إلى مثل ذلك، هكذا قالت الصحفية.

فرحت وقلت لنفسي: هذه فرصتك يا ابن أمه!! اتفقنا أيضا على اليوم والساعة، وكانت مستعجلة حتى لا “يموت الحدث”، على حد تعبيرها. وأنا أيضا كنت أرغب في أن يكون ذلك في أسرع وقت، حتى لا ينساني المثقفون وخاصة زمرة الروائيين الذين تأكلهم الغيرة من جيلي ومن جيل السبعينيات، فعلي أن أغتنم فرصة “ارتباط اسمي باسم رئيس الجمهورية” كي أطلع إلى الفوق، كي أسجل اسمي بحروف من ذهب!!

وكان اليوم، وقد جئت المكان بساعة قبل الموعد، دون حساب الساعات الأخرى التي قضيتها في المقهى المقابل لمقر الجريدة والساعات التي قضيتها وأنا أجوب الشارع ذهابا وإيابا لأتأكد من أنني في العنوان الصحيح.

كانت الصحفية لطيفة، وقد عاملتني برقة عالية، وطلبت لي ولها فنجاني قهوة، وبدأت تهطل عليّ بأسئلة في السيرة الذاتية وفي السياسية وعن إحساسي وأنا أحصل على جائزة رئيس الجمهورية وطلبت مني رأيا في الرواية العالمية والعربية والجزائرية، وقد حاولت أن أجيب عن كل سؤال بتفصيل وبمهارة.

وبين الحين والآخر كان المصور يرجمني بشهب فلاش كاميرته اليابانية الضخمة التي تشبه الكلاشينكوف، فأعدل من جلستي وأصنع ابتسامة على شفتي، وأحاول ألا يضيع مني حبل الكلام. انتهى الحوار وقد سوّدت دفترا كاملا، وفي الوقت نفسه كانت تستعين بجهاز تسجيل صغير التقط كل ما تفوّهت به، قالت لي: كتبت كل شيء على الكراسة ولكني قد أعود إلى التسجيل لاستكمال أو تدقيق شيء ما يكون قد فاتني من حديثك العميق والمتميز، فرحت لكلامها ولاعترافها وكأنها أرادت أن تقول لي: إن لجنة التحكيم وهي تمنحك جائزة فخامة رئيس الجمهورية لم تكن مخطئة في اختيارها هذا أبدا.

عدت إلى مدينتي فرحا بالجائزة، ولكن فرحتي ربما بالحوار الذي سيصدر في أكبر جريدة كان أعمق من الجائزة نفسها لأن غياب الرئيس عن حفل التوزيع خيّب ظني، وأَدخل في قلبي كآبة ما.

انتظرت يومين ولم يظهر الحوار، وأنا الذي أخبرت الجميع بأنه سيصدر بسرعة “حتى لا يموت الحدث”! كان الجميع يسألونني حين أدخل المقهى أو أمر أمام بقال الحي عن تأخر صدور الحوار فلا أعرف بماذا أرد.

هذا الصباح، وقبل خروجي من البيت، قررت أن أهاتف الصحفية، إذا لم يظهر الحوار في عدد اليوم، وقد مضى عليه قرابة أسبوع، ولكني ما إن وضعت رجلي على رصيف الشارع حتى ناداني البقال قائلا بأعلى صوته: يا ليتك كنتَ مجرما!

احترت لسؤال البقال، ثم قلت: ماذا تعني بهذا الكلام يا عم إدريس؟ قال لي دون أن يرفع نظره فيّ: اشتر الجريدة الشهيرة وعد إليّ، أو لا تعد فستجد تفسيرا لهذا الكلام.

قفزت إلى كشك الجرائد، أخذت الجريدة، وبسرعة فتحت عليها من الأخير باحثا عن الصفحة الثقافية، وإذا بي أمام مقال عني لا يتعدى حجمه حجم نعي أو الإعلان عن الترخيص لجمعية خيرية أو التشهير لشركة مشبوهة، وقد زينت تلك الأسطر بصورة لي تشبه صور الموتى في الإعلانات عن الوفيات. لم يكن هذا هو الذي أغاضني ولكن المقال الذي كان بجوار المقال عني هو الذي أثارني أكثر وأكثر، مقال يكاد يغطي ثلاثة أرباع الصفحة الثقافية، مقال تفصيلي يتحدث ويروي قصة “مجرم” قتل ثلاثة من أفراد أسرته، نظرت إلى المقال عني، أنا الحاصل على جائزة فخامة رئيس الجمهورية في الرواية، وإلى المقال عن المجرم الذي قتل ثلاثة من أفراد أسرته، وفهمت ما قصد إليه البقال العم إدريس، فقلت: يا ليتني كنت مجرما!

مقالات ذات صلة