الرأي

السرقات العلمية والتزوير: أين المفرّ؟!

ح.م
آن بيروش

تطالعنا كل يوم وسائل الإعلام بأخبار المؤسسات الأكاديمية في العالم تروي ما يجري في مجال البحث العلمي من سرقات وتحايلات بالغة الخطورة. لماذا الخطورة؟ لأنها لا تمس -كما هو الحال عندنا- طالبا استحوذ على نتائج الغير للحصول على شهادة في مادة نظرية جافة تظل داخل الرفوف مدى الحياة… بل إن التحايل والتزوير يركز أكثر فأكثر على اختصاصات تطبيقية كالبيولوجيا والكيمياء ويذهب إلى حد تزييف حقائق التجارب الميدانية من قِبل باحثين لامعين لبلوغ أهداف دنيئة كتلبية رغبة شركة أو مؤسسة تجارية!
قبل بضعة أيام، قرأنا أن السلطات الكويتية عبرت عن ارتياحها بعد أن سحبت مؤسسة الكويت للتقدم العلمي جائزة تشجيعية منحتها لأستاذ في العلوم التطبيقية بالجامعة الكويتية بعد أن قامت بتحريات كشفت أن في الأمر سرقات علمية. وإثر ذلك طالب البعض بمراجعة جميع الأبحاث التي استخدمها الأساتذة للترقيات! وهي القضية الثانية من هذا النوع خلال 6 أشهر في الكويت. وفي هذا السياق، شكّك آخرون في شهادات منحت من جامعات أردنية لعاملين بالكويت فنفى وزير التعليم العالي الأردني ذلك وأمر بالتحقيق في القضية!

من هي آن بيروش؟

أما في فرنسا فالأمر أكثر غرابة، إذ لم تنته بعد قضية ظهرت في سبتمبر 2017 تخصّ تزييف بحوث علمية في حقل البيولوجيا وَرَد ضمن عمل الباحثة اللامعة كترين جيسوس Catherine Jessus، حتى طفت فوق السطح قضية أخرى أخطر منها في باب الاحتيال والتزوير في البحث البيولوجي، اتهمت فيها خلال جانفي الماضي الباحثة اللامعة الأخرى آن بيروش Anne Peyroche. فأمر هذه الأخيرة ليس كغيره لأنها بلغت القمة في العلم والمسؤولية، لكنها أساءت لنفسها بعملية تزوير متعمدة لحقائق علمية! ذلك ما كشفت عنه صحيفة “لكسبرس” Express الفرنسية يوم 8 أكتوبر الجاري.
آن بيروش هي خريجة أرقى المؤسسات الأكاديمية في باريس، وهي مختصة في البيولوجيا الخلوية، وكانت الأولى في دفعة شهادة التبريز في كيمياء الأحياء عام 1994. وبعد 5 سنوات تحصلت على الدكتوراه من محافظة الطاقة الذرية CEA. وفازت بعد ذلك بجوائز علمية، منها جائزة “عالمة السنة” عام 2010 سُلمت لها من قِبل إحدى الحاصلات على جائزة نوبل!
وقد سطع نجم بيروش حتى صارت مسؤولة في أحد مخابر محافظة الطاقة الذرية، ثم أصبحت مستشارة في شؤون البحث العلمي لدى كاتبة الدولة للتعليم العالي والبحث العلمي. وبعد ذلك وضعت بيروش تحت تصرف المركز القومي للبحث العلمي الفرنسي CNRS المعروف باستقطابه لنخبة الباحثين الجامعيين في فرنسا والعالم.
وفي أواخر 2017 عُيّنت بيروش مديرة بالنيابة للمركز ذاته، وهو منصب سام في الإدارة وفي مجال البحث العلمي… بل في جانفي 2018 كانت بيروش تتأهّب لتولي ذلك المنصب بصفة رسمية (وليس بالنيابة). غير أن وزارة التعليم العالي سارعت إلى سحب البساط من تحت قدميها بتنحيتها من منصب النيابة حتى لا تتعيّن رسميا فيه! والسبب هو أن في نوفمبر 2017 صدرت في الموقع الإلكتروني “بوب بير” Pub Peer -المتخصص في تعقّب السرقات العلمية- اتهامات ضد مقالات نشرتها هذه الباحثة بمعية باحثين آخرين. والتهمة تتمثل بوجه خاص في وجود تزوير بيانات في مقالات صادرة بين 2001 و2011. وهو ما دفع أصحاب القرار إلى التراجع عن تعيينها كمشرفة عامة على المركز.

“انتهاكات علمية”

في 20 نوفمبر 2017، وبعد هذه الادعاءات من قبل الموقع المذكور شعرت محافظة الطاقة الذرية بالحرج، فلجأت إلى 4 خبراء مستقلين للتحقيق في القضية، وقدّموا تقاريرهم في ديسمبر 2017. وعندئذ تبيّن أن بعض تلك التهم لا بد من أخذها مأخذ الجد.
ولهذا أقدمت المحافظة في جانفي 2018 على تكليف لجنة من 4 خبراء يرأسها السكرتير الشرفي الدائم لأكاديمية العلوم الفرنسية للتحقيق والاستماع إلى مختلف مؤلفي تلك المقالات. وتم الاستماع للجميع باستثناء آن بيروش لأسباب صحية إذ دخلت المستشفى للعلاج ضد “الاحتراق النفسي” (وهو نوع من الإرهاق الشديد). وقد قدمت هذه اللجنة تقريرا ضمن 31 صفحة في ماي 2018 يُظهر تورطا واضحا في التحريف والتزوير لآن بيروش.
يشير رئيس لجنة التحقيق في التقرير أن أعضاء اللجنة الثلاثة عملوا مدة تقَدر بـ 280 ساعة، وأن الأمر يتعلق “بتقرير مرحلي” لأن اللجنة لم تستمع بعد للمتهمة الرئيسية!
ومما جاء في هذا التقرير بأسلوب حذر ومنمّق : » يبدو بأن الشك ضئيل في ألا تكون هناك انتهاكات يصعب تقبلها ارتكبت في تحرير المقالات الخمسة المتهمة. والمسؤولية الجزئية أو الكلية للسيدة آن بيروش تبدو جلية…«. وقبل ذلك يشير المقررون إلى أن مسألة إصدار تصويبات في المقالات المذكورة أو سحبها قضية مفتوحة. وقد صنفت اللجنة الانتهاكات في المقالات حسب خطورتها، منها “التجميل” (أي تجميل النص)، و”تلفيق النتائج” و”التحريف” و”التزوير”.
وما يلاحظه المتتبعون أن محافظة الطاقة الذرية والمركز القومي للبحث العلمي قرَّرا التستر عن التقرير السلبي لأكاديمية العلوم. وهذا ما أغضب العديد من الباحثين في الهيئتين وفي الأكاديمية. بل إن مدير المحافظة السابق كان قرر طرد آن بيروش من منصبها، لكن المدير الذي خلفه عدل عن ذلك، ومن المتهمين بالتستر عن القضية وحماية آن بيروش وزيرة التعليم العالي نفسها.
وكما قال أحد الباحثين الفرنسيين معقبا على هذه القضية، فلو كان المعني طالبا في الماستر، ووجهت له مثل هذه التهمة لوجد نفسه خارج الجامعة! مرة أخرى، تدعونا هذه الأمثلة وغيرها إلى التأكيد بأن أسباب التزوير والسرقات العلمية متشعبة ومنتشرة في كل الأوساط، ومن واجبنا جميعا حماية وسطنا من هذا التلوّث الخطير واتخاذ التدابير الصارمة للحد منه.

مقالات ذات صلة