الرأي
الحلقة الأولى

السنّة والشّيعة.. تقارب ووحدة أم تعايش ودعوة؟

سلطان بركاني
  • 3089
  • 0

في كلمة له نُقلت عن عدد من الأعلام بعبارات متقاربة، يقول الإمام ابن حزم عليه رحمة الله: “فإنّ هذه الملّة الزّهراء الحنيفية السّمحة كِيدت من وجوه جمّة، وبُغيت لها الغوائل من طرق شتّى، ونبت لها الحبائل من سبل خفية، وسُعِيَ عليها بالحيل الغامضة، وأشدّ هذه الوجوه: سعي من تزيّى بزيّهم وتسمّى باسمهم ودسّ لهم سمّ الأساود في الشّهد والماء البارد، فلطّف لهم مخالفة الكتاب والسنّة، فبلَغ ما أراد ممّن شاء الله تعالى خذلانه، وبه تعالى نستعيذ من البلاء، ونسأله العصمة بمنّه لا إله إلا هو” (الأحكام: 03/ 21) .

هكذا كان أئمّة الإسلام وعلماء المسلمين، واعِين غاية الوعي، بالمؤامرات التي تحاك للأمّة لإفساد دينها، بالتّزامن مع المؤامرات والحروب التي تشنّ عليها لإفساد دنياها، مجمعين على التّحذير من المذاهب الباطنيّة التي تتدثّر بدثار التقيّة وتتستّر خلف دعاوًى خادعة، لتتوصّل إلى أهدافها في تحريف الإسلام وإسقاط مصادره ورموزه وطمس معالم تميّزه وإلحاقه بالديانات الوثنيّة والأديان المحرّفة.

13 قرنا من الزّمان، اتّفقت خلالها كلمة أئمّة الإسلام وعلماء المسلمين، على اختلاف مدارسهم ومذاهبهم، أهل حديث وأشاعرة ومعتزلة وزيدية، وأحنافا ومالكية وشافعية وحنابلة ولا مذهبية، على التّحذير من التشيّع الباطنيّ التكفيريّ الذي سرَت إليه أدواء الأمم التي سعت بالكيد للإسلام والمسلمين، من تكفير وغلوّ وخرافة وانحلال، بعد أن صار مباءة لكلّ متربّص بالإسلام وأهله، وسعت خلايا المكر إلى استغلاله لاختراق الإسلام من الدّاخل بعد أن عجزت عن مجابهته في ميادين المواجهة، عملا بوصية ملك الفرس يزدجرد حينما قال: “أشغلوا عمر بن الخطّاب في عقر داره“.

هكذا أجمع أئمّة الإسلام على ذمّ التشيّع الباطنيّ

كانت البداية من الخليفة الرّاشد الإمام الهمام عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، الذي قدّم للأمّة درسا يُفترض أن يكتب بماء الذّهب، عندما بدأت خيوط المؤامرة تنكشف على عهده، وظهر بين المحيطين به مَن وصفه بصفات الألوهية، وطعن في صاحبيه وخليليه أبي بكر وعمر، متستّرا بموالاته ومحبّته؛ فلم يتساهل معهم، بل أمر بتسليط أليم العقاب عليهم، وقال قولته المشهورة: “لمّا رأيت الأمر أمرا منكرا، أجّجت ناري ودعوت قنبرا“.

وعلى نهجه في البراءة من التشيّع الباطنيّ التّكفيريّ، والحزم في تعريته وفضحه، سار العلماء والأئمّة الأعلام؛ أئمّة وأعلام أهل البيت من أمثال زيد بن عليّ ومحمّد الباقر وجعفر الصّادق وغيرهم، وأعلام الزّيديّة من أمثال القاسم بن إبراهيم الرسّي ويحيى بن الحسين وأحمد بن عيسى ومحمّد بن الهادي المرتضى والمقبلي ويحي بن الحسن القرشي ويحي بن حمزة وغيرهم، فضلا عن أئمّة أهل السنّة من أمثال أبي حنيفة ومالك والشّافعيّ وأحمد، وعلقمة والشّعبيّ، وطلحة بن مصرّف ومسعر بن كدام، وسفيان الثّوريّ والقاضي أبي يوسف وعبد الرّحمن بن مهدي، والقاسم بن سلام والبخاريّ وأبي زرعة الرّازي وأبي الحسن الأشعريّ وأبي بكر الباقلاّني وأبي حامد الغزاليّ والآمدي وابن قتيبة والطّحاويّ وابن حزم والأسفراييني والسّمعانيّ وأبي حامد الغزالي وأبي بكر بن العربيّ والقاضي عياض وابن الجوزي وابن حجر وابن تيمية والسّبكيّ والذّهبيّ وابن القيم وابن كثير وأبي حامد المقدسيّ والشّوكانيّ والآلوسيّ، وغيرهم..

كلّهم أجمعوا على ذمّ التشيّع الباطنيّ واتّفقت كلمتهم على التّحذير منه، في مختلف العصور والأحوال، حتى في الأوقات العصيبة التي كان فيها الخطران التتريّ والصليبيّ يتهدّدان الأمّة المسلمة، لم يدعُ واحد منهم إلى الوحدة والتّقارب مع الشّيعة، ولم يغترّ منهم أحد بدويلاتهم التي قامت في فترات مختلفة، لأنّهم يفقهون جيّدا قول الله جلّ وعلا: (لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً وَلأَوْضَعُوا خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَة)، ويعلمون جيّدا ديدن القوم في محاولة استغلال النّكبات التي تحلّ بأمّة الإسلام لإقامة كياناتهم على أنقاضها.

.. وهكذا تصدّوا له على أرض الواقع

لقد ضرب أئمّة الإسلام أروع الأمثلة في سعة صدورهم للخلاف المتعلّق بالفروع ومسائل الاجتهاد، لكنّهم في مقابل هذا لم يسكتوا أبدا عن الدّعوات الباطنيّة التي تستهدف عقيدة الأمّة وتاريخها، وقد حفلت المصنّفات بكلماتهم وخُصّصت عناوين كاملة في كتب السّنن في أبواب ذمّ الأهواء والبدع لنقل عباراتهم في التّحذير من التشيّع الباطنيّ خاصّة، وتواطأت كتب التّراجم على الحديث عن مواقفهم الصّادعة في مناوأة المدّ الشّيعيّ الذي تعرّضت له الأمّة في فترات مختلفة من تاريخها.

لقد سجّل التّاريخ كيف تصدّى أعلام الأمّة للعبيديين (الفاطميين) عندما استولوا على المغرب الإسلاميّ ومصر وزحفوا على بعض مناطق الشّام، وكيف جهروا بإنكار عقائدهم وطقوسهم وممارساتهم، واستنفروا الأمّة لكفّ شرّهم وعدوانهم، وكان من بين هؤلاء، الإمام أبو بكر النّابلسيّ (ت 363هـ) الذي  أُحضِر بين يدي المعزّ لدين الله الفاطميّ فقال له: بلغني أنّك قلت لو أنّ معي عشرة أسهم لرميت الرّوم بتسعة، ورميت العبيديين بسهم؟، فقال النّابلسي: ما قلت هذا، فظنّ المعزّ أنّه قد رجع، فقال: كيف قلت؟ قال: قلت ينبغي أن نرميكم بتسعة، ثم نرمي الرّوم بالعاشر، قال: ولمَ؟ قال: “لأنّكم غيّرتم دين الأمة، وقتلتم الصّالحين، وأطفأتم نور الإلهية، وادّعيتم ما ليس لكم، فأمَر بإشهاره في أوّل يوم، ثمّ ضرب بالسّياط في اليوم الثاني ضربا شديدا مبرحا، ثمّ أمر بسلخه في اليوم الثالث، فجيء بيهودي فجعل يسلخه وهو يقرأ القرآن، فلمّا بلغ تلقاء قلبه طعنه بالسكّين، فمات.

لم يكن الإمام النّابلسيّ ذاهلا عن خطر الرّوم الصّليبيين، ولا كان يزعم بأنّهم أفضل دينا من العبيديين، لكنّه كان يرى أنّ ما أحدثه هؤلاء في دين الإسلام، وما اقترفوه في حقّ المسلمين، لا يقلّ خطورة عن استيلاء العدوّ، وموقفه هذا الذي وقفه باللّسان، وقفه أهل المغرب مع العبيديين بالسّنان، وبلغ بهم الأمر إلى حدّ التّحالف مع الخوارج لردّ بغي العبيديين، ووقفه معهم النّاصر صلاح الدّين الأيوبي، وهو يتأهّب لتحرير الأقصى من أيدي عبدة الصّلبان، ووقفه السّلطان العثمانيّ سليمان القانونيّ الذي لم تشغله معاركه وغزواته التي أرعبت الأوروبيين عن تأديب الشّيعة الصّفويين.

يتبع بإذن الله..

مقالات ذات صلة