-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

السياسةُ الملوّثةُ للعلمِ

السياسةُ الملوّثةُ للعلمِ

كان الصراع على أشدّه خلال عام 2018 بين باريس وموسكو، حين كانتا تصرّان على احتضان المؤتمر الدولي للرياضيات الذي يُقام مرة كل 4 سنوات. وكانت روسيا وفرنسا المرشحتين الوحيدتين لتنظيم هذه التظاهرة العلمية عام 2022 التي يحضرها آلافُ العلماء والباحثين من القارات الخمس. ولذا سقط قرار الجمعية العامة للاتحاد الدولي للرياضيات آنذاك كالصاعقة على الفرنسيين عندما أسفر الانتخاب قبل 4 سنوات على 83 صوتا لصالح روسيا مقابل 63 لفرنسا. وهكذا تقرر عقد المؤتمر الكبير في مدينة سانت بطرسربرغ الروسية خلال جويلية 2022 بدل باريس.

مرارة الهزيمة

كيف تفوز روسيا على فرنسا، والرئيس ماكرون بعث تسجيلا سمعيا بصريا (فيديو) آنذاك إلى اللجنة العالمية قبل أن تفصل في الموضوع ليحثها على اختيار بلاده لهذه التظاهرة؟ لكن روسيا انتهجت خطة أخرى لترشُّحها لم تظهر للعلن إلا بعد انتهاء التصويت، فقد التزمت روسيا بتوفير دعم مالي يُقدّر بـ9 ملايين دولار للمؤتمر، والتكفل بنفقات إقامة وسفر ألف مشارك من بلدان العالم الثالث، وبأخذ على عاتقها التكفل الكامل بـ1300 طالب في مجال الرياضيات من جمهوريات الاتحاد السوفييتي سابقا البعيدة عن روسيا. وإضافة إلى هذا، تكون الإقامة في كل الأحياء الجامعية مجانية أثناء المؤتمر. والأكثر من ذلك أنَّ جميع المشاركين في المؤتمر سيُعْفَون من تأشيرة الدخول إلى روسيا، وسيكون التنقُّل داخل المدينة عبر كل وسائل النقل العمومية مجانيا لكل المشاركين مدة 10 أيام.

وفضلا عن هذه المغريات المادية، فإن روسيا أعلنت العام 2022 “السنة الروسية للرياضيات”، ومن بين ما كان مبرمجا خلال هذه السنة عملية التوعية الجماهيرية لمكانة الرياضيات في حياتنا اليومية. وفي هذا السياق، ستقوم روسيا بترجمة كمّ كبير من الأعمال العلمية في حقل الرياضيات من اللغة الروسية وإليها. وبهذه المناسبة، طلبتْ يد المساعدة من الجميع عبر العالم لإنجاح حملة الترجمة والمشاركة فيها. هذا ما كان مقررا!

لم تهضم السلطات الفرنسية آنذاك هذا النجاح الباهر الذي ستحققه روسيا في المجال العلمي مقابل الهزيمة الموجعة لباريس التي كانت ولازالت تعمل على أن تُتوَّج بلقب “العاصمة العالمية للرياضيات”. كانت في الواقع حربا خفية قائمة منذ 2018 في هذا المجال الاستراتيجي. والدليل على ذلك أنه ظهرت في وسائل الإعلام الفرنسية بعد أيام من صدور نتيجة التصويت لصالح روسيا أصوات علماء وباحثين ينددون بموقف الاتحاد الدولي للرياضيات ويأتون بحجج واهية تطالب بمقاطعة المؤتمر وبالضغط على اللجنة العالمية لتغيير موقفها. هكذا كان الحال منذ 2018! ومن تلك الحجج أن في 8 نوفمبر 2018، أرسلت آمي رادونسكايا، رئيسة الرابطة الدولية للنساء الرياضياتيات، رسالة إلى اللجنة العالمية المنظِّمة للمؤتمر تطالبها بإعادة النظر في اختيارها لمكان انعقاد المؤتمر لأن مدينة سانت بطرسربرغ مكانٌ خطير على حياة المثليين!

ومن المحاولات الأخرى الفاشلة أن في 29 مارس 2019، تلقى أعضاء اللجنة التنفيذية للاتحاد الدولي للرياضيات خطابا يطالب بالتدخُّل في قضية طالبين روسيين من طلبة الرياضيات اعتقلتهما وسجنتهما السلطات الروسية في موسكو “لأسباب سياسية”. وكان الطلب بنيّة المساومة بعقد المؤتمر في روسيا. وردّ رئيس الاتحاد الدولي للرياضيات آنذاك على هذه المحاولة موضحا أنه لا يرى مبررا لإقحام انعقاد المؤتمر في هذه القضية. ومع ذلك ظل الضغط قويا على منظمي المؤتمر.

3 احتمالات لانعقاد المؤتمر

وحتى في 7 فيفري 2022 كان العزم قائما على عقد المؤتمر في روسيا إذ عُقدت في موسكو ندوة صحفية في مركز وكالة الأنباء تاس الروسية مخصصة لهذا المؤتمر تم التأكيد خلالها على أن مؤتمر الرياضيات سيُعقد في سانت بطرسربرغ في الفترة 6- 14 جويلية 2022. وأثناء هذه الندوة أشار نائب حاكم مدينة سانت بطرسربرغ إلى أهم مسؤوليات مدينته في تنظيم هذا المؤتمر، وهي: الأمن الصحي، والنقل، والبنية التحتية، ودعم وسائل الإعلام، والبرنامج الثقافي، وإقامة الضيوف، موضحا أن سانت بطرسربرغ تتمتع بخبرة واسعة في تنظيم التظاهرات الدولية حتى أثناء جائحة كورونا. ومن المعلوم أن المدينة تتميّز بتفوقها العالمي في مجال الرياضيات، والدليل على ذلك أن مسائل القرن السبع في الرياضيات التي أُعلن عنها في مطلع القرن الحادي والعشرين لم تُحلَّ منها إلى حد الساعة إلا مسألة واحدة… وصاحب هذا الحل، غريغوري بيرلمان Perelman هو باحثٌ يقيم في مدينة سانت بطرسربرغ.

عقّب على هذا القرار أحد أساتذة الرياضيات الغربيين قائلا: “أنا أتعاطف مع الدعوات للقيام بشيء ما، ولكني أتساءل عما إذا كانت مقاطعة هذا المؤتمر ستكون لها أيٌّ من التأثيرات المستهدَفة. إن هذه التأثيرات لن تؤذي فلاديمير بوتين ولن تساعد أوكرانيا، بل ستتضرر من جرائها أسرة الرياضياتيين الروسية كثيرًا”. ثم تساءل: “ماذا لو قاطع الأوروبيون الرياضياتيين الأمريكيين غداة غزو أمريكا للعراق؟!

ومع كل ذلك، لم يجد المناوئون لتنظيم المؤتمر في روسيا سوى القضية السياسية التي برزت مؤخرا في أوكرانيا. ففي 24 فيفري اجتاح الجيش الروسي مناطق أوكرانية. وعندئذ أصبح الضغط قويا على الاتحاد الدولي للرياضيات كي يتخذ قرار إلغاء تنظيم المؤتمر العالمي. وهكذا أصدر الاتحاد بيانا يوم 26 فيفري يقول فيه إن الأحداث الأوكرانية جعلته يدرس 3 احتمالات بخصوص انعقاد المؤتمر: إلغاؤه أو تأجيله أو تنظيمه عن بُعد. واتفق المجتمعون على الخيار الثالث، أي تنظيمه عن بُعد.

وإثر صدور هذا القرار اختفى الموقع الإلكتروني الرسمي للمؤتمر الذي كان يسيّره الروس وعُوّض بموقع إلكتروني آخر يوضِّح أن كل التظاهرات ومواعيد المحاضرات والمداخلات ستتم كما كانت مبيّنة قبل هذا التاريخ… لكنها ستلقى كلها عن بُعد. ومن تقاليد المؤتمر أنّ الجمعية العامة للاتحاد تعقد جلسة قبل أيام من انطلاق المؤتمر ويكون ذلك في نفس المدينة المحتضنة للتظاهرة. وبهذا الصَّدد، يوضِّح الموقعُ الجديد أنَّ هذه الجلسة ستُعقد حضوريًّا خارج روسيا وستعلن فيها عن قائمة الفائزين بالجوائز (منها ميدالية فيلدز الشهيرة) وسيُطلب من الفائزين الالتحاق بالمدينة التي تُعقد فيها هذه الجلسة لاستلام جوائزهم.

وحسب مزاعم الاتحاد الدولي للرياضيات أن هذا الإجراء يهدف إلى عدم تعزيز موقف روسيا المعتدية على أوكرانيا. وقد عقّب على هذا القرار أحد أساتذة الرياضيات الغربيين قائلا: “أنا أتعاطف مع الدعوات للقيام بشيء ما، ولكني أتساءل عما إذا كانت مقاطعة هذا المؤتمر ستكون لها أيٌّ من التأثيرات المستهدَفة. إن هذه التأثيرات لن تؤذي فلاديمير بوتين ولن تساعد أوكرانيا، بل ستتضرر من جرائها أسرة الرياضياتيين الروسية كثيرًا”. ثم تساءل: “ماذا لو قاطع الأوروبيون الرياضياتيين الأمريكيين غداة غزو أمريكا للعراق؟!

من الواضح أنه لو لم يدخل التلوّث السياسي على الخط، لكان بإمكان الاتحاد أن يلوّح بالحل الذي تبناه، وأن يبيّن تفاصيله لجميع المعنيين من الباحثين في العالم، مشيرا إلى أنه سيلجأ إلى هذا الحل في آخر المطاف بعد 4 أشهر (تاريخ انعقاد المؤتمر) في حال تعذّر إقامة المؤتمر في روسيا.

يبدو أن العبقري غريغوري بيرلمان -الذي حلّ أول مسألة من مسائل القرن السبع-  كان يدرك عام 2006 تفشي هذا التلوّث حين فاز بميدالية فيلدز وذهب وفدٌ من الاتحاد الدولي للرياضيات للقائه بسانت بطرسربرغ (حيث كان ولايزال يقيم) لإقناعه بضرورة السفر إلى مدريد لاستلام الجائزة، ورفض العرض ورفض الجائزة، ولم يغادر مدينته. كما رفض بعد سنوات استلام جائزة أمريكية بمليون دولار كمكافأة على ما قدّمه للرياضيات… ولله في خلقه شؤون!

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!