الرأي

الشعب الذي لا يعرف الحب تأكله الحرب

أمين الزاوي
  • 6809
  • 28

لكم تغير العالم يا ربي، تغير من حولنا وفينا!الشعب الذي لا يعرف كيف يحب تأكله الحرب ذات يوم.

كل شيء بارد، صقيع، ما عاد ساعي البريد يدق بيده الواثقة باب الدار أو يدفع بالرسالة من تحت فسحة دفة الباب الخشبية العتيقة لتتلقفها على الجهة الأخرى يد مرتجفة أو قلب متلهف.

ماتت نار كانت بالأمس مشتعلة، نار انتظار مرور ساعي البريد في ساعته التي لا تخطئ موعدها، ماتت موسيقى الخطوات التي لا تخون ساعتها، الساعة التي لا تشبهها أخرى. قفل زمن ساعي البريد ومعه قفل الحب بابا كانت فسيحة ورحيمة.

ما عدنا نفتح صندوق الرسائل مرتين أو أكثر في اليوم الواحد، حين تتأخر بعض الأيام رسالة ننتظرها، نحدسها أو نتوقعها، من على آلاف الكلومترات نشم عطر حبرها، لرسائل الحب عطر خارق وعابر للقارات، نفتح صندوق البريد المرة و الأخرى والأخرى كي نتأكد بأن شيئا كان يجب أن يكون هناك وقد تأجل لليوم التالي لانتظار آخر في اليوم التالي.

ما عاد يسأل الناس عن رسالة تركها ساعي البريد لفلان عند فلان، ماتت الرسائل العابرات للقارات، انقرض زمن طابع البريد والدمغة عليه، ومع اختفاء طابع البريد وساعي البريد وصندوق البريد اختفى أيضا الكاتب العمومي، وهو الذي كان يعرف أسرار الناس مفرحها ومقرحها على السواء، كان يعرف عن الواحد من أهل القرية أكثر مما يعرف الملاكان الواقفان على الكتفين، على اليمين وعلى اليسار، يعرف كل شيء ولا يفشي سرا، مع رحيل ساعي البريد قلبت ورقة من هذا الزمن الجميل وغاب فصل من عمر الوردة وعمر الأرض الزرقاء.

كم تغير العالم يا ربي، تغير من حولنا وفينا.

كان الأدباء الذين أحببناهم يبدعون في الرواية وفي الشعر وفي القصة وقبلها هذا وذاك كانت رسائلهم لخلانهم وحبيباتهم كنزا ثريا من العواطف النبيلة، حديقة ساحرة وسحرية، فتنة أخرى للقراءة.

الشعب الذي لا يعرف كيف يحب تأكله الحرب ذات يوم.

من منا لم يقرأ قليلا أو كثيرا من لآلئ نصوص جبران خليل جبران المكتوبة لمي زيادة؟

ومن منكن لم تُعد كتابة بعض زنابق حدائق مي لجبران وأرسلتها لحبيبها بين خوف وخوف، بين ارتجافة وشوق، بين خطأ إملائي وآخر نحوي.

كم تغير العالم يا ربي، تغير من حولنا وفينا.

كلما انهزم الحب في الكتابات الأدبية، في الشعر وفي القصة وفي الرواية تقدمت بالمقابل الحروب مسافة أكثر وشاعت الخيانات وعم الخوف.

من منا لم تحركه رسائل هربت إلى المطابع بعد تردد، كتبها شاعر من طراز خاص، نصوص من حبر الدفء ومداد الحب كتبها نزار قباني إلى الأديبة كوليت خوري.

ومن منا لم يقف مرتعشا مرتجفا أمام رسائل كوليت خوري إلى نزار قباني.

كان الأدب نصير العشق. وعلى الأدب أن يظل رسول الحب.

في الزمن الفقيد، زمن ساعي البريد وطابع البريد وصندوق البريد كان الحمام الزاجل يعرف منازل العشاق ويدرك من رقصة الخطوط على العناوين درجة الشوق ترمومتر نار البعد وكان هذا الحمام يعرف باب “طوق الحمامة” لابن حزم وسماء “الزهرة” لابن داوود.

من منا لم يقرأ إن قليلا أو كثيرا من رسائل الوجدان والعشق، تلك التي كتبها الأديب المناضل الفلسطيني غسان كنفاني إلى الكاتبة الرقيقة غادة السمان؟

رسائل رقيقة غيرت لدينا صورة غسان كنفاني التي طالما حملناها عنه، لقد بدَّل الحب غسان كنفاني، دون أن يتخلى عن مواقفه، تحوّل من رجل يساري صلب مناضل عنيد عتيد في مواجهة إسرائيل إلى رجل بقلب يخفق وبهشاشة وشفافية تشبه شفافية الورد.

لذا أقول لكم: الشعب الذي لا يعرف كيف يحب تأكله الحرب ذات يوم.

قبل عشرين سنة وأكثر كان للحب قاموس، وكان له عطره. كنا نقرأ الروايات كثيرا كي نتقن كتابة رسائل الحب للفتيات الجميلات، في النهار كنا نقرأ كتبا صعبة على الفهم وثقيلة على القلب، كنا نقرأ كتبا ك: “قراءة في رأسمال” لألتوسير والمقدمة لابن خلدون وأسرار البلاغة لعبد القاهر الجرجاني وغيرها… وفي الليل كنا نقرأ بلهفة روايات القلب التي عليها وبها ومنها تعلمنا كتابة رسائل الحب البريئة، كنا نتبادل روايات جورجي زيدان وعبد الحليم عبد الله ويوسف السباعي وإحسان عبد القدوس وجبران خليل جبران ولطفي المنفلوطي وفلوبير وغي دي كار وهنري ملير

الحب أوصلنا إلى القراءة، والقراءة أوصلتنا للكتابة والكتابة قادتنا لحب الحياة وحب الحياة قادنا إلى الدفاع عن الجميل فيها.

أما قلت لكم: إن الشعب الذي لا يعرف كيف يحب تأكله الحرب ذات يوم.

مقالات ذات صلة