الشعر والبطاطا والبرلمان
تُكتب القصيدة لتثير الخيال لدى القارئ، أي المواطن، وتلك واحدة من مهام الشعر الجميل، والشعب الذي لا قدرة له على التخيل، الذي لا خيال له، شعب ميت وعقيم وغير ديناميكي، بهذا المفهوم، إذا كان الشعر هو رأسمال للخيال والتخييل فإن البطاطا هي الأخرى كالشعر، تماما بتمام، تثير الخيال الجزائري، على المستوى السياسي والتجاري والأيديولوجي والاقتصادي والجمالي واللغوي والموسيقي. هوس!
و بما أن البطاطا تثير الخيال والقصيدة أيضا تثير الخيال، تماما بتمام، إذن وبمعادلة رياضية بسيطة نستطيع البرهنة على أن الشعر والبطاطا ينتميان إلى فصيل جِينِيٍّ واحد، هو فصيل الإبداع، دم الفن.
أيها السادة لا تستهينوا من شأن البطاطا، لا تستصغروا البطاطا، فلقد كانت سببا في إذكاء حرب ثقافية رمزية كبيرة ما بين دولتين أوروبيتين هما فرنسا وبلجيكا، الأولى بلد فولتير والثانية عاصمتها بروكسيل هي عاصمة الاتحاد الأوروبي، ولا تزال هذه الحرب الباردة مستمرة حتى اليوم، ويعود سبب اندلاع هذه الحرب إلى خلاف وقع بين البلدين حول من كان السباق إلى اكتشاف وإبداع “الفْريتْ” “les frites“، الفرنسيس أم البلج؟
والعجيب، يقول المؤرخون بأن عاملين أساسيين هما من حافظا، حتى الآن، على الوحدة الترابية والشعبية لبلجيكا، إنهما: البطاطا والشعر، إذ يُجمع العارفون على أن دفاع البلجيك “بفرنكفونييهم” و”فلامانييهم” على أسبقية بلجيكا في اكتشاف “الفْريتْ” هو من أجَّلَ وحتى الآن تفتت بلجيكا وانقسامها وتقسيمها، كما يجمع الفُهّامُ أيضا بأن لشعر جاك بريل Jacques Brel (1929 – 1978) الدور الكبير في الإبقاء والدفاع عن هذه الوحدة الوطنية ومقاومة التقسيم.
و”الفْريتْ” ” les frites“ أيها السادة هو واحد من مشتقات الحبة العجيبة، حبة البطاطا البيضاوية الشكل، إذ تقص على شكل أعواد وترمى في زيت عباد الشمس أو الكاكاو المغلي حتى تتحمر.
كما للشعر الجميل سلطةٌ على الأطفال فللفْريتْ سلطة عليهم أيضا، لذا يقول العارفون بشأن علم أصول وتأصيل الأذواق: إن البطاطا والشعر توأمان، يلتقيان في الإبهار والإدهاش والخيال، كما تجربة الشعبين الجزائري والبلجيكي مع البطاطا والحلم تؤكد بما لا يدع في الأمر شكا بأن علاقة الشعر بالبطاطا علاقة عميقة وعضوية ومصيرية وحاسمة في تاريخ الشعوب في الشمال كما في الجنوب، ولذا يفكر بعض المتخصصين والخبراء في العودة إلى البطاطا لحل أزمة الهجرة غير الشرعية والبطالة وإحياء مشروع الاتحاد من أجل المتوسط.
حين كنت طفلا، أصدقكم القول، أنني كنت أكره تناول وجبتين هما: البطاطا والكسكسي، لا لشيء إلا لأن أمي الحاجة رابحة رحمها الله كانت تجعلنا وبشكل يومي، سبعة أيام على سبعة أيام، بين خيارين: إما أكل الكسكسي بالحليب أو أكل البطاطا في مرق الزيت، لم يكن لدينا خيار آخر. لذا كنت أحلم أن آكل وجبة أخرى غير البطاطا، اليوم قد لا يصدقني الكثيرون من الأطفال.
اليوم يحدث العجب العجاب لقد أصبح الأطفال يعشقون حد الهبل البطاطا بكل أشكالها، مُمرقة أو فْريتا أو شيبسا (شيبس مهبول)، كما أنها أضحت طريقا لدخول السياسيين المحنكين جدا إلى البرلمان، فتأثيرها عندنا لم يعد متوقفا على الأطفال بل تجاوز ذلك ليتقاسم ولهها الشعري السياسيون، فخطابات الحملة الانتخابية التي تندلع نارها في القرى والمداشر والمدن التي ليس لها شيء من المدن هي مديح في البطاطا التي بعودتها إلى الجزائر التي تحتفل بخمسينية استقلالها يعود الحلم للجزائري، والشعب الذي لا يحلم هو مجرد تجمع بشري لأفراد، مجرد “غاشي”.
ولكن إذا كانت البطاطا هي الشقيقة التوأم للشعر، وهذا ما يحيرني، فلماذا يا ترى اجتمع مجلس الوزراء ومجلس الحكومة والبرلمان بغرفتيه السفلى والعليا ولمرات عدة لمناقشة أمر “البطاطا والمواطنة” ولم يجتمع هؤلاء ولو لمرة واحدة لمناقشة الشعر مع أنهم جميعهم يعرفون أو سمعوا بشاعر اسمه مفدي زكريا، وأن غالبيتهم إن لم أقل جميعهم يحفظون إن جزئيا أو كليا النشيد الوطني “قسما”؟
لكل هذا، وباسم المثقفين عامة وباسم الشعراء خاصة، أحفاد مفدي زكريا وجمال عمراني وعبد الكريم العقون والربيع بوشامة، أتمنى أن يرتفع، ذات يوم، مقام الشعر إلى المقام العالي الذي وضعت فيه أخته البطاطا وهما التوأم الذي يحرك الخيال والحلم في شعب لا يريد أن يفقد الحلم لأنه لوح النجاة، فمتى يجتمع مجلس الوزراء أو غرفتا ممثلي الشعب لتداول وضع الشعر في بلد يريد فيه مواطنه الصالح ألا يفقد الحلم؟