الرأي

 الشيح نحناح والكومندوس السياسي

أبو جرة سلطاني
  • 2352
  • 24
ح.م

سجلت، في الذكرى الخامسة عشرة، لرحيل الشيخ نحناح (رحمه الله)، جملة من الملاحظات حول التغير السريع للمنظومة العالمية، بعد أحداث 11 سبتمبر، بانتقال الفكر العالمي من ثقافة المَحاور والأقطاب إلى ثقافة التكتلات الكبرى. ومن دبلوماسية “الفوضى الخلاقة” إلى سياسة إطعام الحيتان الكبرى بالسمك الصغير. بعد أن تأكد لصناع الأزمات الداخلية أن الضربات الاستباقية لم تعد كافية وحدها لخلخلة الأنظمة التقليدية تمهيدًا لتفكيكها وإسقاطها، فأضافوا إليها إجراءيْن مكمليْن:

ـ التدخل السافـر في الشؤون الداخلية للأوطان بشعار حماية المصالح والأقليات وفرض السلام العالمي (نموذج سوريا، اليمن، ليبيا..)

ـ وصناعة وكلاء وطنيين معتمدين لدى الخارج باسم استمرارية الأنظمة الصديقة (نموذج مصر، العراق..).

النتيجة الملموسة حتى الآن؛ هي نجاح التكتلات الكبرى في توسيع دوائر الكراهية بين الشعوب وأنظمتها، ونجاحها في تحريض الأقليات النافذة على الشعوب الرافضة، وتغذية التطرف والكراهية وتهميش أدوار الأحزاب والمنظمات في أوطانها، وإفراغ النضال السياسي من محتوياته التقليدية في التغيير السلمي وفي التداول على سدة الحكم بإرادة الشعب عبر صناديق الاقتراع، وتبريد العواطف الوطنية والقومية والإنسانية، وفرض سياسة الأمر الواقع على منظومات الحكم في أغلب أنظمة العالم الثالث تمهيدًا لابتلاع العالم الإسلامي واحتواء القضية المركزية: فلسطين.

كان الشيخ نحناح (رحمه الله) يستشرف هذه المعاني منذ نهاية القرن الماضي، وقد سمعه الناس يتحدث ـ في أكثر من محفل ـ عن ملامح النظام العالمي الجديد، وعن حرب المياه بعد حرب النفط والغاز الصخري. وعن تقسيم العالم إلى 500 إثنية، بعد احتلال العراق وتقسيمه ومحاصرة الإسلام باسم مكافحة الإرهاب، وافتعال الصراعات العرقية والمذهبية والطائفية بين مكونات أبناء الوطن الواحد، لإضعاف الروح الوطنية فيه وتشجيع هجرة الأدمغة واختطاف الدولة من طرف لوبيات المال والأعمال، وإقصاء الأحرار من الوطنيين والإسلاميين بالعبث بمفهوم “المواطنة” والتمكين للفكر الاستئصالي الإقصائي، وتوظيف التيارات المتطرفة لضرب مقومات الأمة بأسماء وعناوين وشعارات يتم تصنيعُها في مخابر الذين يتقنون فنون إدارة الصراعات بعنوان: “فرق تسد”، فإذا نجحوا في إيقاد النيران بحثوا لها عن حلول خارجية تعم بها الفوضى وتضيع في أتونها السيادة ويستشري التخلف الاقتصادي وتشيع البطالة والهجرة والفقر وتنتشر الرذائل الأخلاقية.. ويتآكل رصيدُ الثقة بين الشركاء السياسيين باسم الهوية والحداثة والأصالة والعصرنة والتاريخ واللغة والجغرافيا.. حتى تصبح “البسملة” معركة وطنية في دولة دينها الإسلام وشعبها فتح شبه جزيرة إيبيريا ذات يوم..!

كان (رحمه الله) يستشرف المستقبل كأنه يقرؤه في كتاب، ويقترح الحلول العملية على من كانوا يتآمرون عليه لإبعاده من المشهد السياسي بتفصيل دستور على مقاس قفطان صاحب الجلالة، ومع ذلك ظل يدافع عن سيادة الجزائر بكفاءة وتجرد واقتدار بالفكر والقلم والخطاب والحضور الفاعل والمشاركة السياسية. وكان مدركا لمقصد الرباعية السياسية البسيطة في البناء الوطني، وخلاصتها:

1ـ أن الصراع بين أبناء الوطن الواحد يضعف الدولة ولا يقوي الأحزاب.

2 ـ وأن مشاركة الجميع في الجهد الوطني يجني ثمراته الجميع مهما كانت هوامش الأخطاء لدى هذا الطرف أو ذاك.

3 ـ وأن الأولوية الأولى للسلطة والمعارضة هي التعاون على استقرار الوطن وتمتين جبهته الداخلية بالحوار والتشاور لضمان وحدته وأمنه وسيادته.

4 ـ وأن الصراع بين الألوان السياسية يجب أن يكون بالديمقراطية وليس عليها.

وبناء الأوطان كتحريرها يتم بتضافـر جهود الجميع من أجل الجميع. وشعاره في ذلك: “الجزائر حررها الجميع ويبنيها الجميع” ويحكمها الجميع، فمن الوهم أن تتفق الأحزاب كلها حول تشخيص الأزمة وهي متعاندة لا تتحاور، بل يقدم كل حزب برنامجه الخاص لحلها حتى تصير الحلول المقترحة بعدد الأحزاب المعتمدة برامجَ وأفكارا وتوجهات ورؤى. وعلى مكونات الأسرة الوطنية أن يقدموا مصلحة الجزائر على مصالح أحزابهم، فاستقرار الوطن لا ثمن له، لكن كلفته يدفعها الجميع.

هذه الأفكار المبدعة التي قدمها فضيلة المرحوم الشيخ نحناح في حياته فضرب بها أبناءُ جلدته عرض الحائط في وطنه، وأخذ الأشقاءُ في تونس بمقاصدها، فجعلوا الاستقرار أولوية، والوطن خطا أحمر، ومشاركة التيار الإسلامي في السلطة الانتقالية مع رموز قديمة تأسيسا للتعايش من أجل تونس، وتنازلا من أجل مستقبل الأجيال، حتى صار التيار الإسلامي عندهم يُعرف باسم “حركة التنازلات “. لكنْ حقائق الميدان أثبتت أن التنازل من أجل الوطن يعود فضله على المتنازلين بالخير العميم؛ فبعد تجربة قصيرة في المرحلة الانتقالية خاضوا المعترك الانتخابي وزكت صناديق الاقتراع حزبيْ السلطة (النهضة والنداء) وتحاشت الكتلة الناخبة المعارضة الراديكالية والخطاب الحاد والمهرجين، لأن الشعوب الناضجة المتحضرة صارت شديدة الحساسية من التغيير الطفروي الحد الذي قد ينجح في نسف الموجود القائم، ولكن الطفرة إذا لم تكن واعية وليس لها رأس وبرنامج ونفَس طويل تفتح الباب أمام أطماع فئوية تخترق زخم الجماهير ولا تكتفي بالانخراط في مشاريع الفلول المتبقية من “كارتلات” المال الفاسد لإعادة ترميم المشاريع السياسية المستورَدة، بل تتجاوز ذلك إلى استدعاء الماضي لخلط أوراق المشروع الباديسي النوفمبري. والشواهد من حولنا أكثر من أن تُحصى، ولكن الشعب للمرتزقة بالمرصاد.

قبل وفاته بأشهر قليلة دعا الشيخ إلى تشكيل “كومندوس سياسي” وبناء جدار وطني لمواجهة المد الاستئصالي المبثوث في النسيج الإداري والمالي والإعلامي لتهيئة الظروف الوطنية لاحتضان مشروع الدولة النوفمبرية لاستكمال بناء دولة ديمقراطية اجتماعية ذات سيادة في إطار المبادئ الإسلامية. رحمك الله يا شيخ ، فقد كنت أمل الجزائر، ولكنك رحلت قبل أن يكتمل الحلم الذي كنت له مصباحا وكنت به صداحا. والله فعال لما يريد.

مقالات ذات صلة