-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع
أول رئيس للمجلس الإسلامي الأعلى بالجزائر

الشيخ العلامة صدّيق سعدي

الشيخ العلامة صدّيق سعدي

وُلد الصدّيق بن الطاهر بن محمد سعدي في قصبة مدينة تبسة العتيقة يوم 03/06/1907م، وفيها تلقى تعليمه الابتدائي والإعدادي الأول، وتعلم خلالها في مدرسة الأهالي وحذق اللغة الفرنسية موازاة مع تعلمه في المدرسة العربية الحرة مبادئ العربية والفقه والتوحيد وحفظ أجزاءً من القرآن الكريم..

ثم انتقل إلى جامع الزيتونة فتحصل منه على شهادة الأهلية فالتحصيل فالتطويع سنة 1932 ثم شهادة العالمية سنة 1937م، ثم ذهب إلى مصر فدرس في الجامع الأزهر، وحصل منه على شهادة العالمية في الشريعة الإسلامية من دار العلوم، ومكث بمصر طويلا، ولم يعد إلى الجزائر إلاّ بعد استقلالها، لم يتزوج. كان إلفا مألوفا سهلا يسيرا منفتحا مضيافا.. طيب النفس صافي السريرة كما شهد له أصدقاؤه ومعارفه.

صار أول رئيس للمجلس الإسلامي الأعلى بالجزائر سنة 1966م، ثم استقال منه سنة 1968م، بعد خلافات كبيرة مع الرئيس الراحل هواري بومدين في شؤون الفتاوى، وحب السيطرة على المجلس الإسلامي الأعلى، بالإضافة إلى معارضته لتوجهات النظام الجزائري اليسارية الاشتراكية، واستبعاده الإسلام من أن يكون الإطار المرجعي لحكم وتوجيه الجزائر والجزائريين، وظل موظفا بوزارة الشؤون الدينية، وكان يوجّه رسائله من القاهرة إلى جريدة البصائر تحت إمضاء (جزائري)، ترك العديد من الآثار المتناثرة في الصحف الجزائرية والمصرية. توفي في 07/04/1970م بالجزائر العاصمة، ثم نُقل إلى مدينة تبسة ودُفن فيها حسب وصيته، وقد عزف -رحمه الله- عن الزواج.

ومما يُروى عنه من رجال أهل تبسة أن الرئيس هواري بومدين عندما هاجر لمصر وحل بها سنة 1949م كان يأوي لبيت الأستاذ صديق سعدي، وكان يشاركه ويساعده في إعداد الطعام، وطلب منه الأستاذ صديق أن يغسل أوراق الخس والخضار فيقول له “نعم سيدي”، وكان الرئيس الراحل يخاطبه بعبارة “سيدي”.

كان أديبا رقيقا، وشاعرا بليغا، وكاتبا عميقا، نشر كتاباته الأدبية والفكرية والدعوية واللغوية في الصحف المصرية، وكان يكتب إلى جريدتي الشهاب والبصائر الجزائريتين من مصر، ويوقع باسم [جزائري]، وقد قدّم كتاب الشيخ (موسى الأحمدي نويوات، المتوسط الكافي في علمي العروض والقوافي) المطبوع بمصر سنة 1952م بمقدمة فاضت بأسمى معاني البلاغة العربية. كما كان من أصفى الناس سريرة، ومن أكرمهم يدا، ومن أحفظهم للودّ والإخاء، ومن أطيبهم لمن أحبّ صداقته ومعاشرته، يذكره أصدقاؤه بتبسة بجميل الذكر ولاسيما الشيخ مبروك شريط والد زميلنا الأستاذ إلياس شريط، الذي عرفه وصحبه طويلا.

وقد أخبرني الشيخ الأستاذ عثماني العربي رحمه الله عن آثاره ومخطوطاته التي تركها في عهدة أبناء أخته خديجة وبعض أهله وأقربائه فمزّقوها ورموها في المهملات لعدم معرفتهم بقيمتها.  يروي الشيخ محمد البشير الإبراهيمي -رحمه الله- في معرض قصة رحلته إلى المشرق العربي ولقائه بالشيخ صديق سعدي بعد خروجه من الجزائر يوم 07/03/1952م، قوله: (وعرفت الأستاذ الصديق سعدي من أول نظرة، وقد مرت على افتراقنا عشرون سنة، وقد بدأت السن تأخذ من معارف وجهه، ولا تسل عما غمرني من السرور لرؤية الأستاذ الصديق، وعما داخلني من الأنس للاجتماع بالإخوان) (انظر: محمد البشير الإبراهيمي، رحلتي إلى لأقطار الإسلامية، جريدة البصائر، السلسلة الثانية، السنة الخامسة، عدد 194، الإثنين 23/06/1952م الموافق 07/شوال/1371 هـ، ص 1) وغيره.

يروي الأستاذ المحامي (موساوي زروق) في مذكراته (مسيرة مقاوم من جمعية العلماء المسلمين الجزائريين عن الشيخ فيقول: ((.. كنا في اجتماع المديرين الأربعة لوزارة الشؤون الدينية والكاتب العام الأستاذ صديق سعدي الذي ينحدر من تبسة، وكان في القاهرة، الأستاذ صديق سعدي رجل مثقف ثقافة عالية، ومتحكم في اللغتين العربية والفرنسية، وعاش في القاهرة ودخل إلى الجزائر، وكان يعرفه الوزير التيجاني هدام – وزير الشؤون الدينية- فأتى به وعيّنه كاتبا عامّا، وقد كان رجلا فاضلا، ولكن ليس بالإداري، يستحق أن يُكتب عنه، وللأسف توفي وهو أعزب، ولا أعرف إن كتب عنه قريبه عثمان سعدي أم لا، لأن الأستاذ صديق سعدي من الشخصيات الجزائرية الممتازة التي أقول عنها إن أغلب رجال مصر ولمدة طويلة كل من عمل منهم شهادة ماجستير أو شهادة دكتوراه إلا ومرَّ على الأستاذ صدّيق سعدي، لأنه كان يتولى ترجمة البحوث ويتقاضى أجره مقابل ذلك، وكان أيضا مع الأستاذ مالك بن نبي، لأنه عاش أيضا في القاهرة، ولكن من ناحية التوجيه الديني كل منهما له اتجاهه، ابن نبي فيلسوفٌ ديني، عالم اجتماعي، عالم تاريخي، عالم يبني الحقائق على بحوث مركزة على تجارب واتجاهات عامة لعالم كامل..)).

وقد كتبت عنه إحدى قريباته الأستاذة (سارة مناعي) على شبكة المعلوماتية نقلا من مقال للأستاذ الراحل (نوار جدواني) (غريب في وطني) نشره في جريدة البصائر قبيل وفاته بقليل. ومما جاء في مقاله القيّم قوله: ((.. في الـ 07/04/1970م  لبى نداء ربه بعد أيام قضاها في مستشفى مصطفى باشا في غيبوبة ونُقل إلى مدينة تبسة ليوارى التراب في اليوم الموالي وقد بلغ من العمر ثلاثا وستين سنة كما كان يتمنى.. ذلك هو الشيخ الصديق سعدي من علماء الجزائر الكبار المغمورين.. هاجر من بلدته تبسة إلى المشرق العربي وبالتحديد إلى مصر في بداية ثلاثينيات القرن الماضي طلبا للعلم واقتداءً بمن سبقوه قبل ذلك بسنوات كالشيخ العربي التبسي وغيره، وظل مقيما بمصر حتى الاستقلال. وهو يجيد سبع لغات. عاش زاهدا ومات كذلك)).

ويضيف الأستاذ (نوار جدواني) قائلا: ((بتوجيه من الشيخ إبراهيم مزهودي زرته وتعرفت عليه أيام الحكومة المؤقتة… كان مسكنه في شارع (الصناديلي) الذي يقع في أحد الاحياء العتيقة بالقاهرة المكتظ بالحركة والحياة الشعبية.. في شقة متواضعة في الدور الأرضي بعمارة عتيقة أيضا استأجر فيها مسكنا ضيقا لا يفتح شبابيكه لأنه يطل على المارّة ويصل إليه صياح الباعة وضوضاء الغادين والرائحين بجميع أشكالهم مما يضطره إلى غلق النوافذ… كان الرجل شديد التواضع إلى درجة أنه كان يعلق ثيابه على جدران الغرفة.. وفي زاوية منها يقع المطبخ الذي يعدّ فيه الشاي له أو لضيوفه الذين يفدون عليه.. وهم من علية القوم.. علماء وأدباء وسياسيون ودكاترة جامعيون تأخذك الدهشة حين تراهم يجلسون إليه في تواضع واحترام شديدين ويقرأون ذلك في تعابير وجهه فيقولون: ((.. جئنا لكي نتبرَّك بهذا الرجل الفاضل نتلقى منه الحكمة ونأخذ عنه التواضع ودماثة الخُلق.. وقد عمل في مجال التربية والتعليم في مصر وظل يترقى في هذه المهنة حتى وصل الى درجة مفتش المنطقة التعليمية (بنها). وهذه الدرجة من الوظائف لا تعطى في الغالب الأعم إلا للأكفاء من المصريين.. ولا ينالها من هو أجنبي يحمل جنسية أخرى.. ولاشك أن الشيخ الصديق سعدي استحقها عن جدارة بخُلقه وعلمه وكفاءته. ولما أمّم الرئيس جمال عبد الناصر الشركة العالمية لقناة السويس التي ظلت عشرات السنين تمتص دم المصريين ولا تعطيهم من مداخيلها سوى الفتات وأغلب موظفيها كانوا من الأجانب.. فرنسيين وانجليز.. وبسبب هذا التأميم وقع العدوان الثلاثي على مصر في خريف عام 1956.. وبتوجيه من مالكي الشركة وهم فرنسا وبريطانيا انسحب الخبراء والفنيون من جميع المصالح الإدارية حتى يعرقلوا سير الكثير منها. وكان من بين الذين استُدعوا لبلادهم أساتذة اللغة الفرنسية في بعض المدارس والثانويات.. وأراد المسئولون تدارك هذا العجز فعرضوا على الشيخ الصديق سعدي أن يملأ بعض الفراغات التي تركها المدرِّسون الفرنسيون فقبل القيام بالمَهمَّة، ولكنه اشترط أن لا يتقاضى مرتبا مساويا لما كان يتقاضاه المتعاونون الأجانب وهو مبلغٌ كبير ولا شك.. بل يتقاضى مرتبا يساوي ما يتقاضاه أي مدرِّس مصري.. وهو مرتب زهيد في تلك الفترة.. وتعجب رجال التربية والتعليم لهذا الرجل الذي تأتيه النعمة دون أن يسعى إليها فيرفضها ولا يقبلها وغيرُه يعمل جاهدا لينالها.أو يكون قريبا منها.. وهذا موقف من مواقف الرجل الذي ظل يمد يد العون للمحتاجين من جيرانه.. لا يردّ من يطرق بابه ويعيش على الكفاف عيش القانعين الزاهدين في رفاهية الدنيا.. يلبس بدلة في زمن الحر وأخرى في زمن القر، فإذا تغيّر لونها بفعل حرارة الشمس فإنه يأخذها إلى الخياط فيقلّبها حتى يصبح داخلها هو خارجها فتبدو كالجديدة وما هي كذلك..)).

صار أول رئيس للمجلس الإسلامي الأعلى بالجزائر سنة 1966م، ثم استقال منه سنة 1968م، بعد خلافات كبيرة مع الرئيس الراحل هواري بومدين في شؤون الفتاوى، وحب السيطرة على المجلس الإسلامي الأعلى، بالإضافة إلى معارضته لتوجهات النظام الجزائري اليسارية الاشتراكية، واستبعاده الإسلام من أن يكون الإطار المرجعي لحكم وتوجيه الجزائر والجزائريين.

ويضيف الأستاذ الراحل (نوار جواني) قائلا: ((.. حين رجع إلى الجزائر بعد الاستقلال لم يصحب معه سوى مكتبته العامرة بأمهات الكتب.. وعندما استقرّ به المقام في مدينة تبسة بعد ثلاثة عقود من الغربة سأل الذين زاروه.. عن الذين كان يعرفهم قبل أن يسافر إلى القاهرة فكان جوابهم: الدوام والبقاء لله يا شيخ، حينئذ أطلق زفرة ثمقال: (غريبٌ في وطني). ثم قدِم إلى الجزائر العاصمة والتحق بالجامعة المركزية للتدريس بمعهد الترجمة وظل شهورا لا يتقاضى أي مرتب، ثم لزم بيته وكانت تقيم معه أخته المدعوّة “الخامسة” في شقة بشارع العربي بن مهيدي.أما بخصوص مرضه ووفاته فالدكتور محيي الدين عميمور المستشار السابق بالرئاسة والأستاذ طارق بن شين عضو المكتب الوطني لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين لازماه من حين دخوله في غيبوبة ونقله الى مستشفى مصطفى باشا، إذ ظل كذلك إلى أن رحل عن دنيانا.. ونُقل إلى مدينة تبسة ليُدفن في مقبرتها. وحين أرسل أحد المسؤولين باقة ورد كبيرة ترافق جثمانه رفضها الذين رافقوه من أهله وذويه. كان الرجل -رحمه الله- صاحب بديهة لا نظير لها.. ونكتة على طرف لسانه لا تفارقه فلا تملّ من الجلوس إليه لعذوبة كلامه وبشاشته وحسن استقباله لضيوفه وتلاميذه.لم يملك في مصر ما يحمله معه عند عودته الى الجزائر سوى مكتبته العامرة بالمصادر والمراجع في العلوم الاسلامية أهداها ورثته إلى مكتبة المركز الثقافي الإسلامي التابع لوزارة الشؤون الدينية الواقع بشارع علي بومنجل..)).

يروي الشيخ محمد البشير الإبراهيمي -رحمه الله- في معرض قصة رحلته إلى المشرق العربي ولقائه بالشيخ صديق سعدي بعد خروجه من الجزائر يوم 07/03/1952م، قوله: (وعرفت الأستاذ الصديق سعدي من أول نظرة، وقد مرت على افتراقنا عشرون سنة، وقد بدأت السن تأخذ من معارف وجهه، ولا تسل عما غمرني من السرور لرؤية الأستاذ الصديق، وعما داخلني من الأنس للاجتماع بالإخوان).

وفي مقالٍ كتبه الأستاذ الدكتور عثمان سعدي عنه ونشره في جريدة الشروق اليومي (الصديق سعدي وقصائده في المولد النبوي الشريف، الشروق اليومي، يوم 20/10/2021م) قال: ((زرته في شقته سنة 1953 عندما كنت طالبا بجامعة القاهرة، كان يقيم بحي الجيزة، في شقة جد متواضعة. كان يعيش حياة راهب يطبخ بيده أكله، ويغسل بيده ملابسه، ولا يغادر شقته المتواضعة إلا إلى المدرسة، أو إلى المسجد. ويوفر من مرتبه المتواضع مبلغا يرسله إلى والدته بمدينة تبسة، كانت مشاعر غامضة تنتابني وأنا في جلسة الشيخ الصدّيق، فأجد فيه الإنسانَ الذي ينشد الحرمان ويجد فيه متعة، قال له مرة:

-يا أستاذي العزيز، إنك تحمّل نفسك أكثر مما تطيق، إن أخَاك ميسورُ الحال في تبسة، وهو في غنى عن دريهماتك القليلة التي أنت في أمسّ الحاجة إليها.

ـ يا ابني عثمان، أنا أرسل لوالدتي، فواجبي أن أوفر لها على الأقل نصف النفقة، والنصف الآخر يقوم به أخي.

ــ أؤكد لك أنها ليست في حاجة إليك. أتدري أنها تتصور أنك تسكن في قصر من هذه القصور التي تشاهدها في الأفلام المصرية. ولو شاهدتْ هذه الشقة لأعادت لك دراهمك.

وانفجر الشيخ ضاحكا وهو يقول:

ـ إذن هي تتصور أنني أسكن في قصور الأفلام، قصور [استوديو النحاس]، مسكينة والدتي، دعها يا ابني عثمان تعيش بهذا الحلم، حلم إقامة ابنها في قصر من قصور ألف ليلة وليلة.

كان أديبا رقيقا، وشاعرا بليغا، وكاتبا عميقا، نشر كتاباته الأدبية والفكرية والدعوية واللغوية في الصحف المصرية، وكان يكتب إلى جريدتي الشهاب والبصائر الجزائريتين من مصر، ويوقع باسم [جزائري]، وقد قدّم كتاب الشيخ (موسى الأحمدي نويوات، المتوسط الكافي في علمي العروض والقوافي) المطبوع بمصر سنة 1952م بمقدمة فاضت بأسمى معاني البلاغة العربية.

ثم سكت وراح يتأمل واجما، وفجأة صاح فيّ: قف معي، ساعدني في إعداد سلطة، لقد أعددتُ لنا عدسا لم يأكله هارون الرشيد نفسه.  بكل تأكيد، إن هارون الرشيد لم يأكل في حياته العدس المصري. كان للشيخ الصدّيق روح مرحة، وموهبة في صياغة النكت ببداهة البدوي، وكنت أجد متعة في قضاء ساعات من مساء كل يوم خميس معه رفقة بعض رفاقه. وقد تعلم منه كيف يتغلب الإنسان على فقره ويهزمه، ويكيّف حياته وفق الدريهمات التي يجنيها كمعلم في ثانوية بمصر. بعد الاستقلال عاد إلى الجزائر، وفي عام 1963 شغل منصب الأمين العامّ لوزارة الأوقاف، ثم تولى رئاسة المجلس الإسلامي الأعلى عند تأسيسه. عاد به الحنين إلى دور المعلم، فالتحق بالجامعة الجزائرية أستاذًا للدراسات العليا للترجمة، وظل فيه حتى رحيله، هذا وقد انتسب إلى جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، كما كان عضواً بجبهة التحرير الوطني)).

وللشيخ العلامة سعدي صديق الكثير من الأعمال والأبحاث والكتابات والمقالات، فضلا عن ديوان شعري ضخم جدا ضاع واندثر، فليرحمه اللهُ في الخالدين.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!