-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

الشيخ المربي محمد بن إبراهيم سعيد.. المُصلحُ الأديبُ

الشيخ المربي محمد بن إبراهيم سعيد.. المُصلحُ الأديبُ

ماتزال صوّر تلك الأمسية البهية حاضرة في ذهني بكل زخمها، وكأنها مرّت منذ أيام قليلة قريبة، وهي الأمسية التي جلس فيها الشيخ محمد بن إبراهيم سعيد يتحدث بصوت هادئ فيه تطريب وتحنان أمام جمع غفير هب أفراده من عدة جهات لحضور فعاليات الملتقى الذي انعقد في سنة 2003م في مدينة “القرارة” بمناسبة إقامة وقفة لإحياء الذكرى الثلاثين لرحيل رائد الصحافة الجزائرية الشيخ أبي اليقظان (الخامس نوفمبر 1888 ـ الثلاثون مارس 1973م)، رحمه الله.

في تلك اللحظات، هزتني موجات إعجاب بهيئة الرجل وهو يرتدي لباسا تقليديا ناصعا وأنيقا، ووجهه مزين بلحية بيضاء خفيفة أحسن تهذيبها، وعيناه مخفيتان خلف نظارات ذات إطار سميك. وكانت تلك الهيئة البرانية تجتن في داخلها هيبة ووقارا وإتزانا وانضباطا في احترام الموعد وفي التقيد بالسعة الزمنية الممنوحة لصاحبها حتى يكمل حديثه.

رغم قدرته على الارتجال والإطالة فيه، إلا أنه أعد مداخلته مكتوبة مما يعني أنه ملتزم، ويعرف من أين يبدأ وأين ينتهي. وأنه يرغب في ترتيب أفكاره وإبقاء حبل الانسجام ممدودا بينها. وبمجرد أن شرع في الحديث ازددت به إعجابا. وقد استطاع أن يفرض جوّا من الصمت بين الحضور رغم اكتظاظ القاعة، وأن يسلب أسماعهم وأن يحملهم على متابعته بتركيز. وكان يخطب بهدوء تام والثقة تغمره، ويتكلم بلغة بليغة شامخة البيان، مستظرفة العبارات، وراقية في جنس مفرداتها، وفيها سمو وفصاحة ودقة. وكانت الكلمات تنثال من فمه كمياه الينابيع الجبلية الصافية، والجمل تتدفق بين شفتيه بغزارة وكأنها سبائك مذهبة متقاطرة في تسلسل، وتحمل إلى ملتقطيها معاني جمة وغير منقوصة.

لم تكن اللغة تطاوع المصلح الأديب الشيخ محمد إبراهيم سعيد وتنقاد له، ولم يكن في استطاعته تفريكها كالعجين بين أصابع دالكه، وتليينها بقلمه الساحر وبلسانه الرطب لو لم يصرف جهودا لتعلمها من أمهات الكتب التي كتبها كبار الأدباء والشعراء، وإطلاعه على القواميس حتى حصد منها ذخيرة مغنية وزاد وفير. وبذلك امتلك ناصية التصرف فيها وتطويعها  في عبقرية كما كان سيدنا داود يطوّع الحديد ويشكله كما يشاء.

عقد الود بين قلب الشيخ المصلح والمربي والأديب محمد بن إبراهيم سعيد المكنى: “كعباش” وبلدته “العطف” التي أبصر فيها النور، وعاش فيها أغلب سنوات عمره المبارك، وخدمها حتى يرفع سمعتها بين مدائن سهل وادي مزاب، عقد عقدة حب قوية تعجز خوارم الزمن عن شقها وفصمها وإفسادها. ومن فرط حبه لها، فهو يدعوها: “العطفاء”.

و”العطف” أو “العطفاء” هي حبة من العقد النضيد الذي يضم المدائن السبعة التي أسست في وادي مزاب، وهي أقدمها وأسبقها ضربا بجذورها في تربة التاريخ. ويعود زمن تأسيسها إلى سنة 1016م. وقد أسسها أهلها بعد أن ضاقت بهم الحياة في مدينتهم “سدراتة” القريبة من “ورجلان” التي عمّروها بعد سقوط الدولة الرستمية.

واسم “العطف” مستصدر من لفظة: المنعطف؛ لأنها انتصبت في نقطة انعطاف وادي مزاب التي يغيّر وجهته عندها، وينعطف في سيره بحذائها، ويمضي ملتويا هائما إلى حيث وجهته وقرارة صبيبه الذي يحمله كلما سخت عيون السماء. وقد رضيت بالاستلقاء على كتف جبل صغير اصطفت فيه المسكن المتلاصقة من أعلى قمته إلى أقدام سفوحه بعد أن خلفت في ذروته حيزا للمسجد. وتدعى “العطف” باللهجة المزابية، وهي إحدى اللهجات البربرية في الجزائر، تدعى: “تاجنينت”، وهي كلمة مؤنثة فيها تصغير. ومن المعروف أن الكلمات المؤنثة في اللهجات البربرية تبدأ بحرف التاء. ولا يمكن أن تكتمل صورة هذه البلدة الرشيقة في مخيلة من لم يرها، ويريد أن يتخيلها إلا إذا جمع بين المواصفات التي يوحي بها الاسمان معا، أي: “العطف” و”العطفاء”، وزاوج ومازج بين الشقين المادي والمعنوي فيهما. وإن توصل إلى ذلك، فلن يبصر سوى خيال صورة لمنظر طبيعي يفيض جمالا، وتزيده سعفات النخيل تزيينا لتقاطع لونها الأخضر مع لون الصخور الأصفر.

يُعرف في اللغة أن الاسم ماض في الثبات والاستقرار، ولكن ابن هذه البلدة العريقة الشيخ المربي محمد إبراهيم بن سعيد كسر القاعدة، ورحل به من الاسم إلى الصفة، واختار لذلك صيغة المؤنث “العطفاء” ليبلغ بها مرقى من الوداعة والتحبب الغزلي الذي يهفو إليه قلب كل أنثى. أو ليثير الانتباه إلى أن العطف الذي قابلته به بلدته لم يجد له نظيرا في المدن التي قصدها بحثا عن نيل لقمة العيش وهو غض العود، أوالمدن الأخرى التي شدّ إليها الرحال للدراسة والكسب المعرفي كلما وجد إلى ذلك سبيلا ومعونة.

ليت المقام يتّسع حتى يستوعب قصّة حياة الشيخ محمد إبراهيم بن سعيد الذي يتوارى خلفها تاريخ باذخ وثري. وهو لم يقدم إلى الحياة وفي فمه ملعقة من ذهب، كما يقولون. ومنذ عهد طفولته الأول، اكفهرت الحياة في وجهه بتكشيراتها المتوعدة، وأبرزت له أنيابها الحادة، وألقت به بين اليتم والفقر. فقد تجرع قساوة فقدان العطف الأبوي بعد أن فقد والده وهو في عمر الطراوة. وتذوّق كؤوس مرائر الحرمان ولدغات ووخزات أشواك المعاناة التي أدمت فؤاده قبل أن تجرح جلده وعضله.

في المرحلة الأولى من عمره نازعته رغبتان اختلجتا في صدره وعقله، وصعب عليه التوفيق للجمع بينهما في آن واحد، وهما رغبة إعالة أسرته الصغيرة المؤلفة من والدته التي كانت بمثابة سنده الأول وأخته، ورغبة مواصلة تعليمه لإشباع نهم تعلقه بالدرس ومناهل المعرفة. وكان كلما انغلقت أمامه سبيل إلا ونزل عليه فرج من السماء بفضل من الله ثم من أهل الخير والإحسان. ومثلما استطاع أن يحفظ كرامة أسرته التي يعيلها بعد أن أضاف إليها زوجة صبورة قنوعة، وإن يطعمها من خبز الحلال، فإنه تمكن من الوصول إلى حواضر العلم المزدهرة من موارد التعلم في معهد الحياة بالقرارة وفي تونس.

إذا كان الشيخ إبراهيم بن عمر بيوض، رحمه الله، ورفاقه من أصحاب اليمن والبركات يشكلون الجيل الحركي البارز في معركة الإصلاح في الجنوب الجزائري، فإن الشيخ محمد بن إبراهيم سعيد وإخوانه من مجايليه يؤلفون الجيل التابع الذي تسلم المشعل لمواصلة الطريق. ولا شك أنهم استفادوا من تجربة أسلافهم، ووضعوا أقدامهم على آثار أقدامهم تجنبا للزيغ عن الطريق المرسومة والانحراف عن الأهداف المعقودة.

رمى الشيخ الأديب محمد بن إبراهيم سعيد بصره في حذاقة العارف بسبل الموازنة والاعتدال في طريقين سلكهما، وهما طريق الإصلاح وطريق ممارسة الوظيف الرسمي في سلك التربية والتعليم. وتمكن من بلوغ النتائج والمراتب المأمولة في خطي سيره بقدر عظيم لا ينكرها إلا من كان في عينيه غبش من سواد أو عمش وضعف بسبب الجحود. ومثلما صمد أمام الخطوب والكروب في حقل الإصلاح، فإنه تسلق سلم الترقيات بتوأدة في وظيفته التي انطلق فيها من مدرس في المرحلة الابتدائية وبلغ رتبة أستاذ في اللغة والأدب العربي في التعليم الثانوي. إلا أن الشطر الأكبر من حياته التعليمية أمضاها في منصب مدير في التعليم المتوسط. مما يؤكد انه خلق للقيادة وتقدم الصفوف ورسم الخطط والوقوف في المقدمة إن في المسجد أو في المدرسة.

استل المربي الأديب محمد بن إبراهيم سعيد من دفاتر مذكراته التي خطها في ستمائة صفحة، استل منها فقرات طبعها في كتاب وشحه بعنوان: “رحلة العمر”، ويوضح مبررات ذلك في قوله في مقدمته: ‘وكنت قد نسّقت هذا العمل في حلقات مرقّمة بلغت الخمسين حلقة، ضمنتها كثيرا من تفاصيل الأحداث في إطار مراحل حياتي، فطال بي المشوار وكثرت الصفحات فتجاوزت  الستمائة صفحة. ورأيت أن لا مناص من الاختصار، والتركيز على التعريف بجوانب من حياتي في ما هو ألصق بي من النشاط العائلي أو النشاط الثقافي والاجتماعي، مما هو ضروري لرسم الصورة الحقيقية لمراحل تلك الحياة، دونما تضخيم أو استطرادات على أن أبقي ما كتبته أولا، كما سجلته مفصلا ومطوّلا، ليكون مرجعا للباحث، ومكملا لما سجلته في المذكرات).

تصدّى الشيخ محمد بن إبراهيم سعيد إلى مهمّة استدراك الجزء المفقود من تفسير الشيخ إبراهيم بن عمر بيوض للقرآن الكريم بعد أن صعب جمعه واسترجاعه حتى يخرج إلى القراء كاملا. وانبرى للقيام بهذا التكليف الإرادي التشريفي بتفان واقتدار وعن كفاءة واستطاعة. ولكن التوفيق ألهمه تفسير المصحف الشريف كاملا. ويقول بصدد هذا الإنجاز المعرفي الخالد الذي سمّاه: “نفحات الرحمن في رياض القرآن”، يقول ما يلي: (ما كان يغلب على ظني أن يتحقق في واقع حياتي ذلك الدعاء المخلص من أبي الروحي الشيخ عدّون شريفي عندما عرضت عليه مشروع التفسير التأليفي المتمثل في ملزمة الجزء الأول منه، وأنا أرجو منه أن يدبجه بمقدّمة من عنده تبركا وتيمنا، وأطلب منه أن يدعو الله لي بطول العمر حتى أغطي الحلقة المفقودة من تفسير الشيخ الإمام: “في رحاب القرآن”، فأجابني على الفطرة وبقناعة: “بل أطلب لك من الله أن يمد في أجلك حتى تكمّل تفسير القرآن بأكمله). (ص: 280).

يجد قارئ كتاب “رحلة العمر” في سطور صفحاته صيدا ثمينا وغنيمة غالية، ويستلذ حلاوة متعتين متعانقتين، وهما متعة غزارة المعلومات حتى وإن كانت ذات طابع شخصي في معظمها ومتعة روعة اللغة وجماليتها.

أطال الله في عمر شيخنا الأديب الأريب محمد بن إبراهيم سعيد، وجزاه أحسن الجزاء نظير ما بذر من بذور خير لنفع أبناء مجتمعه ووطنه.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!