-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع
أقواس

الصيف وحكاية القبو والقراءة

أمين الزاوي
  • 4874
  • 5
الصيف وحكاية القبو والقراءة

دون استئذان، سأحكي لكم حكاية صديقي امحند إسماعيل صاحب المكتبة العامة بالأبيار وهي واحدة من أعرق مكتبات البيع في الجزائر العاصمة، مكتبة خاضت الحروب الباردة والساخنة ضد الغلق أو التحويل ولم تنهزم كما حدث ذلك مع كثير من المكتبات التي تفتتت بعد حل المؤسسة الوطنية للكتاب وتصفية أملاكها وتوزعيها على مجموعة ممن كانوا سببا في كارثة حال الكتاب في بلادنا والتي تم تحويلها إلى محلات بيع الملابس الداخلية أو مطاعم الفوست ـ فود أمام عيون الدولة.

  • “اللي قْرا، قْرا بَكري”؟
  • في جلسة حميمية حدثني هذا المكتبي العاشق للكتب والقراءة عن والده الذي كان مشرفا على هذه المكتبة العائلية يرعاها كما يرعى أبناءه ووطنه وهو الوطني المناضل الذي عرفته الخاصة والعامة في الجزائر مثقفا ورجل علم وكتاب وثقافة وموقف، وله على أجيال متتالية من الإطارات والقراء العاديين فضل كبير، يقول امحند إن حبه وشغفه بالكتاب له حكاية غريبة ومثيرة رواها لي كما يلي وها أنذا أسوقها لكم دون تزويق أو تنميق.
  • القبو الذي بمساحة الدنيا:
  • … كان والدي إذا ما اكتشف شيطنة من شيطناتي، أيام المراهقة، وما أكثرها، ينزلني إلى قبو المنزل ويغلق عليّ لساعات، وفي هذا السجن كنت أجد نفسي محاطا من كل الجهات بآلاف الكتب المخزنة، كتب في الفنون والآداب والتاريخ والفلسفة، وباللغتين العربية والفرنسية، وشيئا فشيئا، شيطنة فوق شيطنة، حبسا على حبس، ولتمرير الوقت بدأت أُلامِس هذه الكتب، أفتحها، أحاول أن أفك لغزها، أن أقرأ قليلا، أستمتع ببعض الصور، أتأمل جمال بعض الأغلفة، الكتب المصورة، شيئا فشيئا أصبحت الكتب صديقة قادرة أن تكسر بعضا من صمت القبو، شيطنة بعد أخرى تليها نزول بعد آخر إلى القبو، بدأت أستلذ القبو الذي كنت أتصور الكتب التي تنام فيه مفتوحة العينين كأنما هي الأخرى تنتظرني وتتمنّى لو أن الله يكثر من شيطنتي حتى تزداد زياراتي إليها، ففي صمت هذا القبو نسجت أولى علاقاتي المتينة مع الكتاب وفيه تعلمت بلاغة صمت الكتب، لقد حولت القراءة سجن المسلط عليّ من الأب إلى حريات مفتوحة على خيرات الإنسانية. وتحول عقاب الوالد إلى عسل من الوقت. وتمنيت لو أن شَيْطُناتي كثرت وتعددت حتى تكثر ساعات سجني في القبو، لكن والدي اكتشف بعد فترة من الزمن بأن القبو لم يعد يخيفني بل إنه كثيرا ما كان يصادفني غارقا بين الكتب فيتساءل عن الخطأ الذي لأجله أنا موجود في هذا المكان، وأصبحت أتساءل هل إن الوالد بإرساله إلى القبو هو يجزيني أو يعاقبني، واختلط الأمر في رأسي، وربما هي ذات الأسئلة التي كانت تدور في رأس والدي، وبدأت أنزل القبو بدون أن يأمرني والدي بذلك، وأصبح النزول لا علاقة له بالشيطنة التي تقلصت كثيرا ومعها ازدادت ساعات مكوثي في القبو.
  • مثل والدي، أنا الآخر وبعد مدة اكتشفت بأن الكتاب والقراءة قادران على تغيير مفهوم المكان، من حيز للعقاب إلى فضاء للمتعة، من فضاء للسجن إلى مدينة للحرية، لقد كانت الكتب المفتوحة بالقراءة قادرة أن تجعل من قبو لا تتجاوز مساحته بعض أمتار فضاءً مفتوحا على الأزمنة والأمكنة المتعددة بما حملته من بشر وفن ومعرفة وعبقريات ومخيالات، وبالكتب أيضا تحولت رطوبة القبو إلى أكسجين وهواء عليل، في هذا القبو الصغير الخانق المختنق اكتشفت بأن القراءة هي طريق لمقاومة أكبر المحن التي قد يتعرض إليها الإنسان في حياته.
  • ومع مرور السنوات، يضيف امحند اسماعيل، تسلمت مسؤولية هذه المكتبة وانسحب والدي إلى الراحة والتقاعد وطيفه لا يغادر المكان ولا مخيلتي ولازلت حتى الآن حين أقرأ كتابا أشعر وكأنني في قبو الوالد.
  • بحكم التقدم في العمر، وإذ أصبح الوالد يجد صعوبة في صعود درجات السلم، أعددت له مكتبة خاصة في ذات القبو، فكان لا يرى إلا فيه ضائعا بين أكوام الكتب، وكلما نزلت سلم القبو لأحييه، أُصَبِّحُ عليه أو أُمَسِّي، ووجدته في عرينه غارقا في القراءة قلت له: في أول الشباب كان هذا القبو طريقي إلى القراءة عقابا وفي مختم العمر ها هو القبو لايزال طريقا للحياة والرحلة التي لا تنقطع. ضحك والدي وقال: يا ليت قبو القبر يكون كهذا القبو مليئا بالكتب هو الآخر.
أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
5
  • MOHAMED

    RANA EN Gèneration de tahlab

  • عفاف

    أنت محق فالكتاب نعمة لا يعرف قدرها الجميع لقد درست فلسفة و عرفت قيمتها و أتمنى أن يدرك هدا الجميع
    رك

  • رحماني

    أرجوا منك يا دكتور أمين الزاوي أن تهتم وتعرف القارئ الجزائري بهذه الشخصيات التي افتقدناها في هذا الزمن المادي

  • بدون اسم

    حور الجزائر

    شكرا يااستاد المقالات الادبية التي تنشرها في الجريدة

  • fakhi 13

    خير جليس في الانام كتاب............شكرا استاذ على السرد