-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

العالم من أزمة كورونا إلى أزمة أوكرانيا

العالم من أزمة كورونا إلى أزمة أوكرانيا

لم يتنفس العالم الصعداء بعد من أزمة كورونا التي لا تزال تفرض منطقها وتسببت في كساد اقتصادي غير مسبوق مس الدول الفقيرة والدول الغنية على سواء، وإن كان أكثر وقعا على الدول الفقيرة التي اضطرتها الجائحة إلى الاستدانة وطلب المساعدة الإنسانية، وحتى وإن انتهى  فيروس كورونا فإن تداعياته ستبقى إلى أمد طويل نسبيا لأن عودة الحياة الطبيعية لا يمكن أن تتحقق بين عشية أو ضحاها، فأمام العالم مدة مضاعفة لمحو آثار كورونا وهذا ما تؤكده كثيرٌ من التقارير العالمية التي تتحدث عن أزمة ارتدادية مهولة في العالم الثالث لا يمكن تجاوزها وتداركها إلا بعد مدة طويلة نسبيا.

لقد ازداد الطلب العالمي على الدواء والغذاء في ظل جائحة كورونا واختلّت المعادلة الاستهلاكية واضطرت كثيرٌ من الأسر إلى الاستدانة لسدّ حاجياتها اليومية وانهارت القدرة الشرائية واختفت الطبقة الفقيرة وتبعتها الطبقة الوسطى وعجزت كثيرٌ من الدول عن ضبط هذه المعادلة واستسلمت للأمر الواقع وتوجّهت مرغمة إلى الاستدانة لضمان قوت مواطنيها.

ستكون للصراع الروسي الأوكراني من دون شك تداعياتٌ خطيرة على العالم؛ فرغم الإيجابية الوحيدة التي يفرزها هذا الصراع وهو ارتفاعُ أسعار النفط في السوق العالمية، إلا أن هذا الارتفاع سيقابله من جهة أخرى زيادةٌ في أسعار الغذاء وزيادة التضخُّم ناهيك عن زعزعة الاستقرار العالمي الهشّ، كل هذا من شأنه أن يُدخل العالم في دوامة معقدة لن يخرج منها بسهولة.

لا تزال كثيرٌ من التقارير الأممية وتقارير منظمة الصحة العالمية تتحدّث -رغم مرور سنتين عن البدايات الأولى لكورونا- عن موجةٍ رابعة وخامسة ولا ندري متى ينتهي هذا الكابوس الذي أفسد علينا حياتنا وأدخلنا في دوامة يومها كأمسها ليس هناك على المدى القريب ما ينبِّئ بزوالها.

صدر لي مقالٌ بـ”الشروق اليومي” منذ شهور بعنوان “نظرية العالم الرابع وإسقاطاتها على عالم ما بعد كورونا”، وقد استغرب البعض هذه المقاربة وقال آخرون باستحالة حدوثها وعدّها البعض الآخر مبالغة مني لا تستند إلى دليل، ولكن جاءت شهادات المختصين في هذا المجال تترى مطابِقة لما ذهبتُ إليه، فمعالم العالم الرابع قد بدأت في الظهور وهو ما يوحي بأن نظرية العالم الرابع ستتحوّل إلى واقع ملموس لا ينكره إلا مُكابر.

في الوقت الذي يكابد فيه العالم تداعيات أزمة كورونا، حدثت هذه الأيام أزمةٌ أخرى لها طابع جيو- إقليمي وهي أزمة أوكرانيا، وهذه الأزمة ليست وليدة اليوم بل تعود -على أقرب تقدير- إلى بداية التسعينيات حينما قامت روسيا بتأسيس رابطة الدول المستقلة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وأقامت مع بيلاروسيا حلفا استراتيجيًّا وحاولت في الوقت نفسه إبقاء أوكرانيا -رغم استقلالها- تحت ما يشبه الوصاية، إلا أن أوكرانيا اختارت الضفة الغربية وأصبح تنسيقُها مع المجموعة الغربية سلوكا ظاهرا ومستفزّا لروسيا وبدأ يتعزز تدريجيًّا إلى درجة اقتراحها مع جورجيا في عهد الرئيس الأمريكي جورج دابليو بوش عضوا في حلف شمال الأطلسي “الناتو” من خلال برنامج تحضيري، ولكن هذا الاقتراح لم يحالفه النجاح بسبب رفض الكرملين المطلق لهذا المقترح الأمريكي واعتراض فرنسا وألمانيا عليه كذلك، وتجددت هذه المحاولة في قمة بوخارست ولكن انتهت القمة دون التوصل إلى اتفاق بهذا الشأن، ولكن هذا لم يمنع أوكرانيا من محاولة تعزيز ارتباطها بالغرب من خلال اتفاقية تعاون مع الاتحاد الأوروبي، وقد أزعجت هذه السلوكات الأوكرانية الكرملين وجعلته يفكِّر في طريقة أخرى أكثر حسما لوقف هذا التحالف الأوكراني الغربي أو شلّه على الأقل حفاظا على روسيا ضد كل تحالف أوكراني غربي مستقبلي يضر بمصالحها ويعرِّضها لأي خطر محتمل يأتيها عبر البوابة الأوكرانية.

وصف الاتحادُ الأوروبي الهجوم الروسي على أوكرانيا بأنه تعدّ صارخ على سيادة دولة مستقلة اعترفت روسيا باستقلالها وسيادتها بتوقيعها على “العقد الكبير” لترسيم الحدود سنة 1997، كما وصف الاتِّحادُ الأوروبي الهجوم الروسي على أوكرانيا بأنه تهوُّرٌ سياسي من فلاديمير بوتين ستكون له عواقب وخيمة على النظام الروسي والاقتصاد الروسي، وسارع الاتحاد الأوروبي فورا إلى إقرار حزمة من العقوبات الاقتصادية ضد روسيا لثنيها عن مواصلة حربها على أوكرانيا، لكن يبدو أن بوتين ماض في خطته ولا يقيم وزنا لهذه العقوبات والتهديدات الأوروبية، فبوتين يؤمن منذ فترة بفكرة الشعب الواحد الذي تعود جذوره إلى الدولة السلافية الشرقية المسماة “كييف روس”. وقد سعى إلى استعادة هذه الوَحدة وكانت ينتظر الفرصة السانحة لتجسيدها على أرض واقع وقد واتته فحمل على أوكرانيا برا وبحرا.

للهجوم الروسي على أوكرانيا خلفياتٌ عميقة أكبر بكثير مما يتحدَّث عنه العارفون بالصراع الروسي الأوكراني، فهي حربٌ في نظر بوتين من أجل إعادة الأمور إلى نصابها وإعادة تصحيح المسار التاريخي الذي أفرزه انهيار الاتحاد السوفييتي، فروسيا في نظر بوتين لا يمكن أن تقبل بتكرار مأساة انهيار الإمبراطورية الروسية عام 1917 والتي كانت أوكرانيا جزءا منها قبل أن تعلن استقلالها وتعيد روسيا السوفييتية احتلالها وضمها من جديد.

ليس لبوتين رغبةٌ في مهاجمة الجمهوريات المستقلة الأخرى، واهتمامُه منصبٌّ على أوكرانيا، والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن هو: لماذا أوكرانيا وليس جمهورية أخرى مع أن جمهورية روسيا لها حدود مع روسيا البيضاء وجورجيا وأذربيجان وكازاخستان؟ إن التركيز الروسي على أوكرانيا له أسبابٌ كثيرة، ومن هذه الأسباب نظرة روسيا إلى أوكرانيا على أنها جسمٌ منسلخ عن كيان الجمهورية السلافية الشرقية الكييفية الروسية التي تتشكّل من شعب واحد بدليل أن هناك نسبةً كبيرة من مواطني أوكرانيا لا يزالون يحتفظون بهويتهم ولغتهم الروسية. إن حكاية الشعب السلافي الواحد حكايةٌ يرفضها بعض المحقِّقين والمؤرِّخين بالنظر إلى الاختلاف الحاصل بين الأمَّـتين الروسية والأوكرانية على المستوى اللغوي والثقافي.

ومن هذه الأسباب أن أوكرانيا تعدُّ –حسب خبراء الطاقة النووية- هي ثالث أكبر دولة نووية في العالم، ورغم تخلي أوكرانيا عن نسبة من هذا المخزون النووي والرؤوس النووية إلا أنها لا تزال تحتفظ بمكانة متقدِّمة بين الدول النووية، ويبدو أن تدمير سلاح الجو الروسي لقاعدة تشيرنوبيل النووية –إذا صحّت الأخبار المتداولة- يندرج ضمن هذا المسعى الروسي.

ومن هذه الأسباب أن أوكرانيا المتحالفة مع الغرب في نظر روسيا يمكن أن تكون قاعدة أمامية داعمة لأي سلوك أوروبي عدواني ضد روسيا التي لا تتمتع في الغالب بعلاقات دبلوماسية وسياسية جيِّدة مع أوروبا، فحدودُ روسيا مفتوحة على عددٍ من الدول الأوروبية منها النرويج وفنلندا وليتوانيا وغيرها وهذا الحدود المفتوحة يمكن أن تشكل تهديدا لروسيا في أي وقت بسبب تعكر العلاقات الروسية الأوروبية.

ومن هذه الأسباب أن أوكرانيا يوجد بها عددٌ معتبر من محطات النفط الذي تخشى روسيا أن تأخذه أوروبا بثمن وبلا ثمن في حالة غفلت روسيا عن هذا الخطر المحتمل وتخلت أوروبا عن روسيا لصالح أوكرانيا في إمدادها بالنفط والغاز وهو ما يشكل ضربة قاصمة ومدوية للتجارة النفطية الروسية.

ومن هذه الأسباب أن أوكرانيا تضم إقليمين مهمّين بالنسبة لروسيا وهما جزيرة القرم التي استغلت روسيا -كما يقول المحللون الإستراتيجيون- حالة فراغ السلطة في كييف وقامت بضمها في 2014 وكذا إقليم الدونباس شرق أوكرانيا الغنيّ بالفحم والذي اتخذت منه روسيا –حسب الرواية الأوكرانية- مكانا مناسبا لحشد التأييد لها من خلال تجنيد عناصر “انفصالية” موالية لها.

ليست أوروبا بمنأى عن تداعيات الصراع الروسي الأوكراني، وذلك لسبب واضح وهي أنَّ لأوكرانيا حدودا مع بولندا والمجر وسلوفاكيا، وأنَّ أيَّ عدم استقرار في أوكرانيا سينسحب على أوروبا، ولهذا السبب صرَّح بعض القادة الأوروبيين عقب الهجوم الروسي على أوكرانيا بأنّ “أوروبا في خطر”، وهرعوا لاتخاذ ما يمكن اتخاذه من عقوبات اقتصادية عاجلة لوقف الآلة الروسية.

ستكون للصراع الروسي الأوكراني من دون شك تداعياتٌ خطيرة على العالم؛ فرغم الإيجابية الوحيدة التي يفرزها هذا الصراع وهو ارتفاعُ أسعار النفط في السوق العالمية، إلا أن هذا الارتفاع سيقابله من جهة أخرى زيادةٌ في أسعار الغذاء وزيادة التضخُّم ناهيك عن زعزعة الاستقرار العالمي الهشّ، كل هذا من شأنه أن يُدخل العالم في دوامة معقدة لن يخرج منها بسهولة.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!