-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

العدالة‭ ‬والثأر‭ ‬وتصفية‭ ‬الحسابات‭ ‬في‭ ‬الثورة

عابد شارف
  • 3430
  • 0
العدالة‭ ‬والثأر‭ ‬وتصفية‭ ‬الحسابات‭ ‬في‭ ‬الثورة

كانت النهاية مخزية. لقد اضطر زين العابدين بن علي إلى مغادرة البلاد، حاملا ما استطاع أن يحمل من أموال وذهب وكنوز. وهرب عنه الأصدقاء، أو من كان يعتقد أنهم أصدقاء، وتسارعوا للتبرؤ منه ومن نظامه ليدخلوا حاشية النظام الجديد، فكانت الإهانة كاملة.

أما حسني مبارك الذي اختار أن يبقى في بلاده، فإن وضعه لم يكن أحسن، فالرجل طاعن في السن، وهو مريض، ويبدو أنه عاجز عن أية مبادرة. وقد قرر النظام الجديد أن يحيله على المحكمة، واحتار فرعون أمس كيف تنقلب الدنيا في سنة واحدة… وبطبيعة الحال، فإن الجماعة التي ترميه اليوم أمام المحاكم هي نفسها التي كانت بالأمس تشكل حاشية نظامه والعمود الفقري له… أليس الجنرال طنطاوي من رفاق مبارك منذ عشرات السنين؟ ألم يرافقه في السلطة منذ أكثر من عشريتين كقائد أركان للجيش؟

  • ولعل علي عبد الله صالح أوفر حظا. فقد اضطر الرجل للسفر إلى السعودية للعلاج بعد أن أصيب في محاولة اغتيال، وفتح غيابه الباب أمام إمكانيات جديدة لانتقال بلاده من القرن الماضي إلى القرن الجديد. وسواء كان علي عبد الله صالح جريحا أم لا، فإن الفرصة متوفرة لفتح مفاوضات‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬تنظيم‭ ‬مرحلة‭ ‬انتقالية‭ ‬هادئة‭.‬
  • أما بالنسبة للزعيم الليبي معمر القذافي، فإن الوضع مأساوي، حيث أن الرجل لا يكسب أصدقاء. وقد وزع القذافي أموالا هائلة لما كان في السلطة لكن ذلك لن ينفعه اليوم. عكس ذلك، فإن حلفاءه مثل نيكولا ساركوزي كانوا أول من أطلق النار عليه حتى ننسى أنهم كانوا أصدقاءه. ويبدو‭ ‬الوضع‭ ‬معقدا‭ ‬إلى‭ ‬درجة‭ ‬أن‭ ‬أحسن‭ ‬مخرج‭ ‬بالنسبة‭ ‬للقذافي‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬يسقط‭ ‬خلال‭ ‬المعارك،‭ ‬حتى‭ ‬يجنب‭ ‬العالم‭ ‬إهانة‭ ‬جديدة‭ ‬بعدما‭ ‬حدث‭ ‬لصدام‭ ‬حسين‭ ‬وابن‭ ‬علي‭ ‬ومبارك‭…‬
  • والواقع أن القادة العرب كانوا عبءا في السلطة، وإهانة لما طردوا من السلطة، فجاءت محاكماتهم لتعمق الجرح. هذا لا يعني أنه لا يجب محاكمة هؤلاء القادة، مع العلم أنهم اضطهدوا شعوبهم ووضعوا المعارضين في السجن وقتلوهم وشردوهم وعذبوهم. ويكفي أن نتابع ما يفعل السوري‭ ‬بشار‭ ‬الأسد‭ ‬لتتضح‭ ‬فظاعة‭ ‬سلوكهم،‭ ‬فلا‭ ‬أحد‭ ‬منهم‭ ‬قام‭ ‬بتنظيم‭ ‬انتخابات‭ ‬مقبولة،‭ ‬ولا‭ ‬أحد‭ ‬منهم‭ ‬يستطيع‭ ‬أن‭ ‬يقدم‭ ‬حصيلة‭ ‬مشرفة‭ ‬في‭ ‬ميدان‭ ‬حقوق‭ ‬الإنسان‭.‬
  • لكن هذا التصرف من القادة السابقين لا يبرر المحاكمات العشوائية التي يستعملها النظام الجديد للثأر. والكل يذكر محاكمة صدام حسين ونهايتها الدامية. ولا شك أنه كان من الضروري محاكمة صدام بسبب الجرائم التي ارتكبها في حق شعبه، لكن ما حدث له كان يشبه سلوك الحجاج بن‭ ‬يوسف‭ ‬ولا‭ ‬يشبه‭ ‬محاكمة‭ ‬عادلة‭.‬
  • وفي تونس، اكتفت المحكمة بيوم واحد لتصدر حكما بخمسة وثلاثين سنة سجنا في حق الرئيس الأسبق ابن علي. وكانت المحاكمة غير عادلة، لم تضمن حق الدفاع، فتحولت إلى انزلاق واضح من طرف السلطة الجديدة. أما حسني مبارك، فقد أوتي به إلى المحكمة وهو في حالة صحية متدهورة، وكأنه‭ ‬لا‭ ‬يفهم‭ ‬إطلاقا‭ ‬ما‭ ‬يدور‭ ‬حوله‭. ‬وقد‭ ‬أثارت‭ ‬محاكمته‭ ‬صدمة‭ ‬لدى‭ ‬جزءا‭ ‬من‭ ‬الرأي‭ ‬العام‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يقبل‭ ‬إهانة‭ ‬رئيسه‭.‬
  • ولا نعرف ماذا سيحدث مع معمر القذافي وبشار الأسد، الذي يواصل القمع بطريقة عشوائية. لكن التصرف الإجرامي لأي حاكم لا يبرر التصرف الإجرامي من طرف الذين ينتفضون باسم الحرية والديمقراطية. ويبدأ بناء نظام جديد عادل باحترام حقوق المهزومين، حتى ولو كانوا مجرمين.
  • والحقيقة أن السلطة الجديدة في مصر وتونس تريد أن تستعمل محاكمة القادة السابقين لتعطي ضمانات للرأي العام، ولتعطي لنفسها مهلة حتى تخفف من ضغط الشارع. والحاكم يعرف أن الشارع يريد الدم، ويريد أن يهين الحاكم السابق، كما يريد أن يأخذ الثأر، وهذا من حقه. لكن تصرف الدولة‭ ‬يختلف،‭ ‬وعلى‭ ‬الدولة‭ ‬أن‭ ‬تفرق‭ ‬بين‭ ‬العدالة‭ ‬والثأر،‭ ‬وأن‭ ‬ترفض‭ ‬الخطاب‭ ‬الشعبوي‭ ‬والسلوك‭ ‬البدائي‭ ‬الذي‭ ‬يكتفي‭ ‬بإرضاء‭ ‬عامة‭ ‬الشعب‭.‬
  • ولا تشكل تصفية الحسابات أساسا لبناء نظام ديمقراطي. عكس ذلك، فإن الثأر وتصفية الحسابات يشكلان خطوة أساسية للبقاء على النظام القديم بوجوه جديدة. وسواء تعلق الأمر بصدام حسين أو حسني مبارك أو الإيفواري لوران غباغبو، فإن تصفية الحسابات مع الماضي تؤدي حتما إلى تعميق‭ ‬الجرح‭ ‬وتكريس‭ ‬الأزمة،‭ ‬خاصة‭ ‬لما‭ ‬تكون‭ ‬السلطة‭ ‬الجديدة‭ ‬قد‭ ‬وصلت‭ ‬إلى‭ ‬الحكم‭ ‬على‭ ‬متن‭ ‬دبابات‭ ‬أجنبية‭ ‬مثلما‭ ‬كان‭ ‬الحال‭ ‬بالنسبة‭ ‬للعراق‭ ‬وكوت‭ ‬ديفوار‭ ‬وليبيا‭ ‬اليوم‭.‬
  • ولعله من المفيد أن نذكر حادثة أخرى متعلقة بشنق حاكم سابق. فقد لجأ الرئيس الأفغاني الأسبق نجيب الله إلى سفارة الأمم المتحدة، لكنه لم ينج من أيدي الجماعات التي وصلت إلى السلطة آنذاك في أفغانستان، حيث اخترقوا الحصانة الدبلوماسية ودخلوا مقر الأمم المتحدة واعتقلوا نجيب الله وأقاموا عليه الحد وشنقوه وبقيت جثته أياما معلقة في شجرة… وصفق الكثير في الغرب بعد ذلك، وقالوا إن الطاغية الأفغاني لقي مصيره المستحق. غير أن الجماعة التي اخترقت الحصانة الدبلوماسية لمقر الأمم المتحدة وارتكبت تلك الجريمة أكدت بعد ذلك أنها قادرة‭ ‬على‭ ‬اختراق‭ ‬حدود‭ ‬أخرى،‭ ‬فكان‭ ‬11‭ ‬سبتمبر‭…‬
أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!