-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

العقل البشري في مُواجهة “الجَايْحَة”

محمد بوعزارة
  • 744
  • 3
العقل البشري في مُواجهة “الجَايْحَة”
ح.م

 تزدادُ أحزانُ الناس أثناء الشدائد والأزمات، ويسكن نفوس العديد منهم اليأس والقنوط، ويلجأ المؤمنون إلى الصلاة والإكثار من التضرع والدعاء للمولى جلَّت قدرته ليرفع عنهم البلاء ويُزيل الهموم، كما يحدث الآن مع جائحة كورونا المستجدة التي أزهقت إلى حد الآن آلاف الأرواح البشرية عبر مختلف قارات العالم.

ولكن مع كل ذلك فإن هناك بعض الناس لا تفارقهم البسمة، ولا تغيب عنهم النكتة على الإطلاق حتى وهم يُودِّعون أعزَّ الناس لديهم الوداع الأخير.

مازلت أتذكّرُ واقعةً رواها لي الصديق الراحل الشاعر المُرهف عمر البرناوي رحمه الله خلال سبعينيات القرن الماضي.

فقد حدث أن تُوفيت صبيةٌ كانت ما تزال تَحْبُو بعد لأحد أصدقاء البرناوي والشاعر الكبير الراحل محمد الأخضر السائحي رحمه الله، والشاعر الكبير محمد أبو القاسم خمار أطال الله عمره.

وبمجرد أن سمع الثلاثة بالخبر حتى قرروا زيارةَ صديقهم لتعزيتهِ في وفاة ابنته الصغيرة.

وفي الطريق طلب البرناوي من الشاعر السائحي أن يمتنع عن ترديدِ أيّ نكتةٍ بحضور الرجلِ المَكْلوم بسبب موتِ ابنته الوحيدة، وراح السائحي يُطمئنُهم ويقول لهم إن المَقامَ لا يسمحُ بقول النُكت، خاصةً أن والد الصبية كان يحدِّثهم دوما بأنه يحبُّها كثيرا لأنها كانت تصنع لهم الفرح في البيت العائلي.

 كان الشاعر الكبير السائحي معروفًا بأنه خفيفُ الظل ويصنع النكتة حتى في أشد الأوقات حرجًا، وكان الناس يتابعونه عبر برنامج شهير بعنوان

“ألوان” يتم بثه يوميا على أمواج القناة الأولى للإذاعة.

وخلال وجود الثلاثة ببيت والد الصبية، سأل الشاعر السائحي والد الصبية عن سبب الوفاة.

وراح الرجل يحكي والدموع تنهمرُ من عينيه بأنَّ والدته، أيْ جدةَ الصبية تركت سبحتها فوق مائدة الأكل، فإذا بالبنت تأخذُ تلك السبحة، وبعد أن مزَّقت خيط تلك السبحة ابتلعت حبةً من تلك السبحة، وبقيت تلك الحبَّةُ عالقة ببلعوم الصبية ما أدى إلى وفاتها على الفور قبل نقلها إلى المستشفى.

وعندها راح السائحي يقول لوالد البنت:

هل بقيتْ لديك حبَّاتٌ من تلك السبحة؟

فسأله الرجل مستغربا: لماذا؟

فقال السائحي لوالد البنت:

 أنا لدي اثنا عشر ولدا وبنتا، وقد بتُّ عاجزا عن إطعامهم، وأريد أن أقوم بنفس التجربة للتغلّب على مشاكل عيشهم وصَخَبهم!

وعندها انفجر والدُ البنت بالضحك من نكتة الشاعر السائحي.

في ظل هذا الحجر الصحي الذي أصبح الأطباء ينصحون به الناس في مختلف أصقاع الدنيا لتجنُّبِ تفشي جائحة الكورونا، والذي تطبقه مختلف الأنظمة والحكومات في العالم بأشكال متعددة، لاحظنا كيف راح العديد من الناس في مختلف مواقع التواصل الاجتماعي عبر العالم يُطلقون فديوهات منطوقة تارة ومسموعة ومرئية تارة أخرى يصنعون من خلالها النكتة التي قد تتجاوز أحيانا كُلَّ حدود اللياقة وتتنافى مع مقومات النكتة، وبعضهم يفعل ذلك ليُضْحِكَ الآخرين ويُدخِل السرور على أنفسهم والتخفيف عنهم من شدة الآلام التي باتت تعتصر قلوبهم وتعتري نفوس الناس من جرَّاء انتشار هذا الوباء القاتل المسعور.

ومن ذلك أن بعض هؤلاء راح يرسم بتهكمٍ صورًا منطوقة ومرئيةً عن الخلافات التي باتت تنشأُ بين الأزواج بشأن المكوث والحَجْر الذي بات مفروضا على الزوجين، وخصوصا على الرجال في البيت، فهذا يصوِّر الخلافات والعَراكَ اليومي بين المرأة وزوجها بشأن الطلب الملح والمتزايد من الزوجة لزوجها بضرورة مساعدتها في شؤون البيت ورفض الزوج القيام بذلك، بالرغم من أنه أصبح قابعا معها في البيت!

وآخر راح يتهكم على الزيارات حتى بين الأقارب، ورفضها حتى من قبل أقرب الناس خوفا من العدوى، من ذلك أن فيديو تحدث عن سيدة جاء أحد أحفادها لزيارتها من إحدى المدن التي أصبحت بؤرة للكورونا، فإذا بتلك العجوز الطاعنة في السن ترفض في بداية الأمر زيارة أحبّ الناس إليها حفيدها، ثم راحت عندما فاجأها بالدخول إلى غرفتها تصرخُ في وجهه بأن لا يقترب منها وأن لا يُقبِّلها حتى لا يُصيبها بالعَدوَى رغم  أنه أفصح لها بأنه أجرى فحصا دقيقا قبل الزيارة!

ومع ذلك ظلت تصرخ في وجهه أخرج ولا تقترب مني!

في معظم مناطق الجزائر تعني عبارة “الجايْح” أو “الجايْحة” الرجل الأبله المعتوه الأحمق الذي لا يفهم شيئا، أو المرأة البلهاء التي تتصف بالغباء والحُمْق.

 وقد أرسل لي أحد الأصدقاء فيديو صوتيا ساخرا لشخص يدعو فيه الناس إلى عدم التهكُّم على هذا الوباء وعدم وصفه بـ”الجايْحة” حتى لا تزداد أحقاد هذه “الجايْحة” علينا وتأخذ منا المزيد من الأرواح والنفوس العزيزة علينا .

أليس القول الشائع بأن شرّ البلية ما يضحك قولا حكيما؟

فعلا إن شر البلية ما يضحك مع هذه الجائحة التي لم تعد “جايْحة” حسب التعبير الشعبي المتداول في الجزائر.

لقد بينت هذه الكورونا فعلا بأنها ليست (جايْحة) بدليل أنها عَبَرَتْ مختلف القارات، وراحت تتسلل إلى مختلف بلدان العالم شرقه وغربه، شماله وجنوبه بدون جوازات سفر، وفعلت فعلها الآثم قتلا وتنكيلاً وفزعًا وحجزا وحجرًا في البيوت والمستشفيات والمِصحَّات، لتفعل كل الشرور في هذا الكائن البشري الذي كان يُوصف بأنه أذكى الكائنات التي تعيش على الأرض، فكيف بإمكان هذا الكائن الذكي أن يثبت اليوم لـ(للجايْحة) التي لا تُرى بالعين المجردة بأنها “جايحة” فعلا وغبية، ويتمكن من التخلص منها كما فعل قبل ذلك مع الطَّاعون والجُدري والسُّل والجَرَب والتيفوئيد، ومع باقي الجائحات الأخرى التي عرفها العالم منذ بدء الخليقة؟.

الأكيد أن كل الناس ينتظرون بتلهف ما سيقوم به العقل البشري وهذا الذكاء الإنساني في مواجهة ما يُوصف بـ”الجايْحة” حسب التعبير الشعبي في الجزائر !

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
3
  • بن مداني عبد الحكيم

    نعم شر البلية ما يضحك ويقول تشارلي شابلن "أنا أضع من ألمي ما يضحك الناس ولكني لا أضحك من ألم الناس" الحياة واحدة عند الناس بمفهوهها الزمني والبيولوجي وكل انسان بتعامل معها حسب ثقافته وفلسفته ومزاجه ولكن ليس ك "الطير يرقص مذبوحا من الألم اليس من العجيب أن يتحول فوز في مبارة أكثر من الأنتصارات الحربية " مجرد رأي"

  • لزهر

    حذاري من الفيروس أن يفعل بنا
    (supprimer tous)

  • جزائري

    العقل البشري لم يخلق من تلقاء نفسه بل له خالق .الخالق يقول : ولا يحيطون بشيىء من علمه الا بما شاء. يعني اذا اراد لك الله ان تعلم شيءا فستعلمه واذا لم يرد فلن يكون لك ذلك. الانسان مغرور اعتقد مثل ما اعتقد قارون عندما قال : انما اوتيته على علم مني فخسف الله به الارض. وها هو كورونا يذكرنا بما نسيناه منذ زمن قارون . بصراحة الجزاءري عندما يمن الله عليه بالرزق الوفير او حتى سيارة فانه يوحي للناس بانه اوتي ذلك على علم منه وليس من الله . ولاحظ كيفية قيادة السيارة عند الجزاءري وهو يتعنتر بغفلة عما قد يقع له وهو في عز الزهو .