الرأي

العلوم الإسلامية والأتاتوركية الجديدة

محمد بوالروايح
  • 771
  • 7
ح.م

أشعر بحزن كبير لما تتعرض له العلوم الإسلامية في مناهجنا التربوية من ظلم متعمّد أو غير متعمد، ظلم يلبس في كثير من الأحيان لبوسا تربويا من قبيل ما يُسمى عند بعضهم “الحوكمة التربوية” التي تحتم عليهم –حسب زعمهم- وضع إستراتيجية تربوية رصينة ترتب المواد التربوية حسب أهميتها وقابليتها للتكيُّف مع المناهج التعليمية التي تقوم عليها المنظومة التربوية المعاصرة.

ومن مقتضيات هذه الحوكمة والاستراتيجية التربوية المزعومة التوجه السريع نحو تقليص حجم العلوم الإسلامية في البرنامج الدراسي، تقليصٌ ليس له تفسير في اعتقادي إلا كونه وسيلة من وسائل تخليص المنظومة التربوية من كل ما يرمز إلى الهوية وفي مقدمتها العلوم الإسلامية التي لا تصلح في نظر شانئيها إلا لوصل المخلوق بالخالق ولا علاقة لها بشؤون التربية، وبناءً على ذلك سارعوا إلى جعلها مادة ثانوية مكملة، ولا أدري ربما يتطور موقفهم منها مع مرور الوقت، من قبولها بهذا الحد الأدنى إلى رفضها بالجملة وزحزحتها بالمرة من البرنامج التربوي إن استطاعوا إلى ذلك سبيلا.

ليست العلوم الإسلامية وحدها من ظُلمت بل ظُلم معها التاريخ والجغرافيا، والغاية من كل هذا إيجاد قطيعة حقيقية بين الناشئة وعناصر الهوية، قطيعة بطعم الجريمة، فعلوم الدين ومواد الذاكرة لها أهمية بالغة في كل النظم السياسية حتى أشدّها علمانية التي رغم حساسيتها المفرطة من الدين ومن كل ما هو ديني، إلا أنها تحتفظ بخيط رفيع بينها وبين المنظومة الدينية حفظا لاستمرار العقد الاجتماعي والمدني المشترك.

لست ممن تتملكه النرجسية فيزعم بأنه وحده العقل المتنوِّر والفكر المدبر الذي ينصِّب نفسه جامعا للعلم وحارسا للقيم ثم لا تجد بعد ذلك في كنانته إلا ثقافة السلب والثلب، فبدلا من أن يتفرغ للدفاع عن قضيته يُستدرج إلى معركة هامشية فيقع في المطبِّ الذي أعده له خصومه، بعض المدافعين عن العلوم الإسلامية –للأسف الشديد يحصل لهم ولو عن حسن نية شيء من هذا القبيل إذ يستهويهم الجدل ويستفزهم أهل الدجل فيقضون كل وقتهم في تنميق الردود وفي انتقاء المصطلحات واختيار الكلمات الأحسن سجعا والأشدّ وقعا ثم يوهمون أنفسهم أنهم أفحموا خصومهم وأرغموا أنوفهم، وهم في الحقيقة قد ارتكبوا حماقات أخرى تضاف إلى نوادر الحمقى والمغفلين.

إن الدفاع عن العلوم الإسلامية مَهمّة لا توكل إلى البارعين في فن الحماسة، ولا إلى المفوَّهين في فن الخطابة وإن كان هذا أمرا مطلوبا ومرغوبا كوسيلة من وسائل خدمة القضية، بل يجب أن توكل إلى البارعين في دقائق العلوم وحقائق الفنون، الذين يحسنون دون غيرهم ثقافة الدفاع عن العلوم الإسلامية، فرُبَّ مُدافع عن العلوم الإسلامية وهو قاتلها، ورُبَّ متحمس لها وهو يساهم في كتم أنفاسها من حيث يدري أو لا يدري.

تابعتُ ما قيل وما كُتب عن العلوم الإسلامية ووقفت على المقترحات العجيبة بتحويلها إلى مادَّة ثانوية مكملة، فتساءلت كما تساءل كثيرون: ما مبرر هذا الإبخاس؟ وهل العلوم الإسلامية هي سببُ نكسة الأمة حتى تُعامَل بهذه المعاملة المجحفة أم أن في الأمر إن وأخواتها وأمورا أخرى لا نعلمها؟

إن الحملة على العلوم الإسلامية ليست بريئة ولو بدت على بعض دعاتها في الظاهر قرينة البراءة، بل هي امتدادٌ لحملة قديمة بدأها أتاتورك ويكمِّلها دعاة الأتاتوركية الجديدة التي لا ترى في العلوم الإسلامية إلا تراثا تاريخيا محدودا في الزمان والمكان لا تصلح نصوصها إلا لإصدار الفتوى ولا يصلح الكتاب المستوحاة منه إلا للقراءة على الموتى. بهذا المنطق المعوجّ حوربت العلومُ الإسلامية لأنها في نظر خصومها علومٌ منتهية الصلاحية وغير منتجة وغير مجدية، وقد ألصقوا بها ظلما ما ينتشر في العالم من غلوٍّ ديني وتطرُّف فكري، ونظر إليها بعض المستغربين على أنها سببُ الإخفاقات الحضارية ما ظهر منها وما بطن. إن العلوم الإسلامية هي التي حررت العقل العربي من أثقال الجهالة، وهي التي أخرجت المجتمع العربي من طور البداوة إلى طور الحضارة، وهي التي أنتجت حضارة قادت العالم ردحا من الزمن مستنيرة بهدي القرآن وتعاليم النبوَّة.

إن العلوم الإسلامية لا تُختزل في القواعد الفقهية والأحكام السلطانية، ولا تختزل في أخلاق التحلية والتخلية، إنها ميدان رحب يتسع لشؤون التربية وأخواتها، ويصلح لتكوين الفرد الراشد والفكر الراشد والحكم الراشد ومن ثم يجب أن ينظر إليها بهذه النظرة الكلية والمتكاملة لا أن تُتَّهم بالقصور بجرَّة قلم لا يعي حامله كثيرا من حقائقها ولا تُسعفه ثقافته لاستشراف آفاقها.

لقد أدرك العقل الغربيّ بعد قرون من العداوة المستحكمة بينه وبين العلوم الإسلامية أن خلاص الإنسان لا يتحقق إلا بالنهل من معينها، وهي الحقيقة التي أدركها المفكر الألماني “مراد هوفمان” فدفعه هذا إلى اعتناق الإسلام وأظهر للعالم درره وأبان لهم عن حقيقة فكره الذي يصلح لبناء الإنسان ولإقامة العمران وذلك في كتابه “الإسلام كبديل”.

“بضدِّها تتميز الأشياء”، في هذا الصدد أسوق لمن يعادون العلوم الإسلامية وتأخذهم في ذلك العزّة بالإثم نصوصا من المنظومة التربوية العبرية التي تجعل من علوم التوراة مادة إجبارية في كل الأطوار التعليمية والهدف من ذلك ربط الأجيال اليهودية بالتوراة، ففي القانون التعليمي الرسمي للدولة الصهيونية أن “الهدف من التعليم الرسمي هو إرساء الأسس التربوية على أسس الثقافة اليهودية ومنجزات العلم، وعلى محبة الوطن والولاء للدولة وللشعب اليهودي”. ومن مناهج التعليم الحكومي العلماني في الكيان الإسرائيلي في كل المراحل التعليمية وخاصة المراحل الابتدائية والإعدادية مواد إلزامية أغلبها ذات طابع ديني ووطني أهمها ما يتعلق بالدين اليهودي واللغة العبرية والتاريخ والجغرافيا (جغرافيا إسرائيل في المقام الأول! (، والوطن والمجتمع. إن البرامج الدينية في الكيان الإسرائيلي تحمل أفكارا عدائية خاصة للعنصر العربي، وقصص الأطفال في المناهج الإسرائيلية تطفح بالعنصرية والكراهية وسيادة عقيدة “الأغيار”، ففي قصة بعنوان (افرات): “لقد أتى العربُ أعمالا وحشية ضد اليهود، وبدا العربيُّ كائنا لا يعرف معنى الرحمة أو الشفقة، فالقتل والإجرام غريزة وهواية عنده، حتى صار لون الدم من أشهى ما يشتهيه.. لقد باغت العربُ اليهود واعتدوا عليهم كالحيوانات المفترسة، وراحوا يسلبون ممتلكاتهم، حتى المدارس والمعابد الدينية لم تسلم من بطشهم.. نساء وفتيات اليهود تعرَّضن للاغتصاب من قبل العرب لأجل إشباع نزواتهم”!

إن الذين يسعون إلى تحجيم وتقزيم العلوم الإسلامية في المناهج التربوية أو الذين يباركون هذه الدَّعوات لا يستخلصون العبرة من التاريخ فقد فعل “كمال أتاتورك” ما فعله لمحو الإسلام من تركيا واستبداله بالعلمانية فاستنفر قواعده وجمع أبواقه وظن أنه قد حقق مبتغاه وأنه سيسلم الروح حينما يسلمها مطمئنا على نجاح مشروعه العلماني، ولكن تركيا ازدادت بعده تمسُّكا بالإسلام وهذا رغم الجهود التي بذلها دعاة الأتاتوركية الجديدة للحفاظ على إرث القائد الهالك الذي انتهى وطواه الزمن كما طوى غيره وبقيت المآذنُ في تركيا عالية صدَّاحة وعاد الأنموذج التركي في مجال التعليم الإسلامي أنموذجا رائدا كما كان من قبل، أنموذج يجعل من الإسلام مرجعية ويستأنس ببعض الفهوم حول الإسلام ولا يؤسِّس عليها.

نصيحتي للغيورين والمدافعين عن العلوم الإسلامية أن يفقهوا حقيقة وهي أنَّ العلوم الإسلامية ليست مادة للجدل شأنها في ذلك شأن كل عناصر الهوية، وأن يركِّزوا في دفاعهم عن العلوم الإسلامية على مناقشة الأفكار والبرامج، وأن يربأوا بأنفسهم عن “ثقافة” الحِجاج واللجاج التي لا تخدم قضيتهم، وأن يلتزموا بأخلاق المُحاور لا بأخلاق المناور، وأن يدركوا بأن دفاعهم عن العلوم الإسلامية هو دفاعٌ عن الإسلام، فهذه العلوم ليست إلا ثمرة للوحي المعصوم الذي جاء لإكمال الدين وسياسة الدنيا.

مقالات ذات صلة