-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

“العلوم العربية” : الفضل لبيئتها!

“العلوم العربية” : الفضل لبيئتها!

يقصد المؤرخون الغربيون اليوم بمصطلح “العلوم العربية” تلك العلوم التي كُتبت باللغة العربية بصرف النظر عن صاحبها سواء كان عربيا أو أعجميا أو مسلما أو مسيحيا أو يهوديا أو وثنيا… علما أن كل هذه الفئات من البشر أسهمت حقًا في تلك النهضة العلمية. بينما يطلق آخرون على هذه العلوم مصطلح “العلوم العربية الإسلامية” بحكم أنها برزت خلال عهد علوّ شأن هذه الحضارة المرتبطة بالإسلام مستنكرين المصطلح السابق لأنهم يرونه يكيد لدور العامل الديني.

 

التنابز المضلِّل

من المؤسف حقًا أن تخلط فئة من المثقفين اليوم وقبل اليوم -ومعهم قوم تبّع مجادلون بدون علم ومتباهون بغير بصيرة- الجانب العلمي المحض بالجانب السياسي والعرقي والجهوي. نقول هذا لأننا كثيرا ما نسمع في مناسبات عديدة ونقرأ في أماكن مختلفة لأناس يؤكدون مثلا أن الفُرس كانوا وراء كل تقدم حدث في عصر الحضارة العربية الإسلامية، بينما تذهب فئة أخرى إلى أن العرب هم أساس كل هذا التقدم ! وهم بذلك يلوّثون صورة العلم ويسيؤون لأهله أمام المواطن.

والواقع أن المهم ليس هذا التنابز والحساسيات المقززة، بل الأهم من كل ذلك هو نشأة الظروف المناسبة وخلق البيئة المواتية لازدهار العلم وتحفيز الباحثين بتوفير لهم الإمكانيات المادية والمعنوية للعمل والتفوّق. وقد وُفِّقت مُقوّمات الحضارة العربية الإسلامية في بعث تلك البيئة العلمية فأنتج فيها العلماء المنتسبون إلى كل الأمم والمذاهب والأديان والمناطق الجغرافية باللغة العربية العلوم الراقية.

وفي هذا السياق، يعلم الباحثون ومؤرخو العلوم أن الأفكار العلمية تأتي تباعا، فتْني صرح العلم لبنةً لبنةً، وتَمضي قُدما بصفة تدريجية حتى تأتي لحظة التتويج… تلك اللحظة التي تَعْلق في الأذهان حين تُنسى كل المراحل البارزة التي سبقتها. بمعنى أن الجديد في كل شيء لا يكون أبدا نتيجة عمل تم في لحظة تاريخية، وإنما نتيجة مخاض يدوم أحيانا قرونا. فالصاروخ لم يسبق الطائرة، والطائرة لم تسبق السيارة، والسيارة لم تسبق الدراجة. تلك هي بديهيات تطور العلم وسيرورة تقدمه! ولذلك يكون عادة من العبث أن لا نحتسب في عالم الأفكار إلا اللحظة الأخيرة، ولا نشيد إلا بمن برز خلالها!

نودّ أن نعود إلى تنابز الفئات الضالّة في مجال العلوم العربية ونأخذ كـ”حَكَم” الموقع الأكاديمي الأنكليزي الذي يُعنى بتاريخ الرياضيات وترعاه جامعة سنت أندروز St Andrews البريطانية. يتعلق الأمر بأرقى موقع في هذا الاختصاص، وهو يعرض سيَر علماء الرياضيات من العصور القديمة إلى العصر الحديث. ويقوم بهذه المهمة بدون توقف منذ نحو 20 سنة، وقد نال بفضل إتقان أداء مهمته عدة جوائز. وهكذا، قدّم الموقع لحد الآن 2680 سيرة لعلماء الرياضيات، وجاء ذلك في أزيد من 10 آلاف صفحة و 4 ملايين كلمة. وتسهر على الموقع شخصيتان بارزتان هما جون أوكُنور O’Connor (1945-.) وإدموند روبرستون Robertson (1943-.)

نجد في هذا الموقع قائمة من الأسماء تحت عنوان “الرياضيات العربية”، والمقصود بهذه العبارة كما أسلفنا، الرياضيات التي كُتبت باللغة العربية. تشمل هذه القائمة سيرة 45 رياضياتيا لأبرز من عرفتهم الحضارة العربية الإسلامية في هذا الاختصاص. وتشير هذه السيَر إلى الانتماءات الجغرافية لهؤلاء العلماء إضافة إلى إسهاماتهم العلمية.

ومن ثمّ اتضح أن البلدان التي ينتسب إليها العلماء الـ 45، هي كالتالي : 12 إيرانيا، 9 عراقيين، 5 أندلسيين، 4 مصريين، 4 أتراك، سوريان، مغربيان، أفغانيان، أزباكستانيان، 3 من المجموعة لم يستطع المسؤولون عن الموقع تحديد أماكن ولادتهم ووفاتهم بدقة.

 

وماذا عن مغربنا؟

وهكذا، نلاحظ أن من منطقة الشرق الأوسط (مصر وسوريا والعراق) هناك 15 عالما، ومن آسيا 16 عالما، وإذا أضفنا تركيا لتلك المنطقة الآسيوية صار العدد 20 عالما. وإن أضفنا ما يطلق عليه اليوم عند المؤرخين “الغرب الإسلامي” (المغرب العربي+الأندلس) إلى قائمة البلاد العربية يكون عدد العلماء من الرقعة العربية 22 عالما، وإن حذفنا منها الأندلس صار هذا العدد 17. وهكذا نستخلص من هذه الأرقام (المبنية على عينة بسيطة) شبه تعادل في عدد العلماء الذين أثْروا العلوم… ولا فضل لأحد على آخر، وإنما الفضل الأول يعود إلى البيئة التي أنشأتها تلك الحضارة!

من جهة أخرى، ينبغي أن ننبّه إلى أن عمل الموقع الإلكتروني المذكور متواصل بدون انقطاع، ومن الواضح أنه لم يُدخل بعدُ نتائج الأبحاث الحديثة في الغرب الإسلامي التي اهتم بها الباحثون خلال العقود الأخيرة، من أمثال التونسي محمد السويسي (1915-2007) والجزائري أحمد جبار بمعية فريقه، والمغربي إدريس لمرابط. فلم يقدم الموقع مثلا السيرة العلمية للمبدعين في الرياضيات أمثال الجزائري ابن حمزة (ق. 16م) رائد فكرة اللوغاريتمات، والمغربي ابن منعم العبدري (ق. 13م) رائد التحليل التوفيقي، والأندلسي المؤتمن بن هود (ق. 11م) الذي برهن مثلا على النظرية الهندسية المعروفة في كتبنا المدرسية بـ”نظرية سيفا Ceva” قبل سيفا بقرنين!

وإذا أردنا أن ننوّه بما أنتجت منطقتنا المغاربية في إطار الحضارة العربية الإسلامية، رغم أن هذا ليس هدفنا في هذا المقام، يكفي أن نشير إلى أن المغربي إدريس لمرابط، المختص في تاريخ الرياضيات، قد ألّف كتابا في هذا الموضوع باللغة الفرنسية عام 1994، ثم أعيد طبعه عام 2014 (ولا نستبعد أن يكون قد ترجم إلى العربية) بعنوان “مدخل إلى تاريخ الرياضيات المغاربية”.

قدّم المؤلف في هذا الكتاب عينة من الأعمال الرياضية التي أنجزها أبناء منطقة المغرب العربي والأندلس إضافة إلى سِيَرهم الذاتية والعلمية المفصلة قدر المستطاع. وخصّ بالذكر أولئك الذين كان لهم باع في تأليف ونشر وتدريس علم الرياضيات عبر القرون الماضية وتركوا لنا فيها آثارا مكتوبة باللغة العربية.

وفي هذا السياق، استعرض الأستاذ لمرابط سِيَر أبرز علماء الرياضيات في الشرق الإسلامي، وعددهم 22 رياضياتيا. وركّز على الأندلس فأحصى فيها 295 عالما اهتم بالرياضيات وألف فيها. أما في المغرب العربي الكبير الحالي (من ليبيا إلى موريتانيا) فيندهش القارئ عندما يجد في هذا الكتاب سِيَر 480 مؤلفا أسهموا في هذه الحركة العلمية والفكرية إسهامات متفاوتة في الكم والكيف! وهذا يدل على النشاط العلمي الذي كان منتشرا في هذه المنطقة حتى خلال العصر الذي يسمي بعصر “الانحطاط”!

ويعجب المرء أكثر عندما يقرأ رأي المؤرخين حين يؤكدون أن مئات المخطوطات العلمية في هذه المنطقة لا زالت مجهولة أو مفقودة ولم يعثروا عليها بعد، وإنما اكتشفوا وجودها من خلال الإشارات إليها ضمن مؤلفات أخرى.


لا شك أن البعض يتساءل عما إذا كان هؤلاء العلماء أو غيرهم في الشمال الإفريقي قد ألّفوا في الرياضيات بلغة أخرى غير العربية خلال القرون الخالية؟ ليس لنا جواب عن هذا السؤال سوى ملاحظة بأن ابن حمزة الجزائري السابق الذكر قد ألّف كتابه الشهير “تحفة الأعداد لذوي الرشد والسداد” باللغة التركية علما أن والدته تركية الأصل… ولذا أتمم تعليمه في تركيا بعد دراسته بالجزائر العاصمة ثم عاد إليها.

خلاصة القول إن “العلوم العربية” تواجدت وازدهرت حيث وجدت البيئة العلمية المواتية سواء في الأندلس أو في المغرب أو المشرق. وما يتضح أكثر فأكثر أن الجهود الرامية إلى تحقيق ودراسة مثل هذه المخطوطات والمؤلفات والكشف عنها في كل مكان، شرقًا وغربًا، لا زالت دون المستوى المرجو. ولذا ينبغي عمن يؤمن بضرورة إحياء التراث العلمي العربي الإسلامي أن يدعم البحث والباحثين في هذا المجال.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
9
  • ابن الجنوب

    المخطوطات والبحوث والإختراعات العلمية التي كانت في مراكز البحث على مستوى العالم الإسلامي والتي كانت تنسب آنذاك للعالم العربي والمقصود به كل ماكتب باللغة العربية بغض النظر عن الإنتماء العرقي للعالم كلهاموجودةلدى الدول الإستعمارية كبريطانيا وفرنساوروسياوأمريكا حيث تم الإستيلاءعليها من طرف الغزات المستعمرين ثم تمت ترجمتها واستفادوا منها كثيرا وقدكانت نقطة إرتكازهم في الثورة العلمية بالإضافة إلى ماكانوا يحوزون عليه من قبل أي ماتم أخذه من اليونانيين والهنود وتخلف المسلمين يعود إلى إنكسارهم عسكريا

  • عزوز

    غير صحيح ليس هناك حضارة مسيحية بالعكس حضارة الغرب الحديثة لم تبدأ الا بعد الثورة على الكنيسة و ايضا الحضارة الاسلامية اخذت الكثير من اليونانية و من الهند و غيرهم العلم نتاج تواتر الاجتهاد الانساني لا يحتكره قوم دون اخر بل هو لمن يطلبه و اشد اعدائه هم المتطرفون و المتعصبون و الحضارة الإسلامية ازدهرت في ضل الانفتاح الذي اتاح لها الانطلاق من ترجمة معارف الشعوب الاخرى و شجع على البحث العلمي و الفضول المعرفي و روح النقد

  • الناقد

    بكل صراحة، من يعادي لغة القرآن فإن في إسلامه (( إن )) !

  • منصور

    العلم ليس له دين أو عرق أو جنسية.
    من يصنفه هكذا ينجح، وهذا حال الغرب الآن والعرب سابقا.
    ومن يصنفه خلاف ذلك يفشل، وهكذا حال العرب اليوم والغرب سابقا.

  • محمد

    يتضح لنا من هذا المقال الهام أن اللغة العربية قادرة على استيعاب كل أنواع العلوم والتكنولوجيا وأن العيب في مسؤولي هذه الأمة العربية المترامية الأطراف الذين لا هم لهم سوى البحث عن الزعامة واتباع وتقليد الغرب في كل ما لا يفيد العالم العربي من علوم مختلفة وبحث علمي واكتشافات وحكم راشد ...

  • الطيب ـ 2 ـ

    نحو من 1500 سنة لكي تنشئ ما يمكن أن يدعى حضارة مسيحية وفي الإسلام لم يُولّ كل من العلم والدين ظهره للآخر بل كان الدين باعثاً على العلم ، وإن الحضارة الغربية مدينة للحضارة الإسلامية بشيء كثير إلى درجة نعجز معها عن فهم الأولى إذا لم تتم معرفة الثانية..

  • الطيب ـ 1 ـ

    يقول أناتول فرانس:
    أسوأ يوم في التاريخ هو يوم معركة (بواتييه) عندما تراجع العلم والفن والحضارة العربية أمام بربرية الفرنجة ألا ليت شارل مارتل قطعت يده ولم ينتصر على القائد الإسلامي عبد الرحمن الغافقي حين نتذكر كم كان العرب بدائيين في جاهليتهم يصبح مدى التقدم الثقافي الذي أحرزوه خلال مئتي سنة وعمق ذلك التقدم أمراً يدعو إلى الذهول حقاً ذلك بأن علينا أن نتذكر أيضاً أن النصرانية احتاجت إلى نحو من 1500 سنة ...

  • بدون اسم

    هذا البحث القيم يشهد على أن العيب فينا وليس في لغتنا ، لاأن اللغة العربية عندما وجدت البيئة الملائمة قفزت قفزات وو ثبت إلى العلى حيث خاضت في شتى ميادين العلوم ، وأخرجت للناس مبادئ بعض العلوم من رحمها ،و استرسلت في علوم أخرى مستندة إلى التراث الإنساني فطورت وأجادت ، واليوم يظن الواهمون أن هذه اللغة قاصرة ويصنفونها مع اللهجات المحلية ، وكيف للغة اختارها الله لكتابه أن تكون بهاته الحال ولسان حالها يقول : وسعت كتاب الله لفظاً وغاية .. فما ضقت عن آي به .. فكيف أصيق عن وصف آلة وتنسيق ...

  • فوضيل

    من عجائب القدر أن يُحرم العرب والمسلمون من تراث ابن رشد الفارابي وابن سينا والرازي ..ليدخل المسلمون بعدها في نفق مظلم، وما وصلنا إليه الآن من أحوال متردية في الجانب الفكري والإنساني وعلى الرغم من التطور العلمي والتقني الهائلين،فما زلنا نعيش بين فكي الاتجاه المادي الرأسمالي وبين الاتجاه الديني المتطرف من جهة أخرى