الرأي

الفرانكفونية تستنجد بأعدائها!!

في يوم 16 ماي 1994، وعبر القناة التلفزيونية الأولى الفرنسية، صرح الطبيب الفرنسي جون هرفي برادول Bradol، المسؤول في منظمة “أطباء بلا حدود”، بخصوص الإبادة الجماعية في رواندا: “إن الأشخاص الذين يقومون بالاغتيالات اليوم، والذين ينفّذون هذه السياسة المُحكَمة التخطيط والمنهجية التي تستهدف الإبادة الجماعية، يتم تمويلهم وتدريبهم وتسليحهم من قبل فرنسا”!
لقد خلّفت هذه الإبادة، التي دامت نحو 3 أشهر عام 1994، قرابة مليون قتيل رواندي (800 ألف نسمة)!!! لكن فرنسا بقيادة الرئيس ميتران آنذاك لم تعترف بتورطها الخطير وظلّ هذا الفعل الشنيع يؤرق رجال السياسة الفرنسيين إلى اليوم.

اعترافات متأخرة

وفي عام 2010، اعترف الرئيس الفرنسي ساركوزي بـأن “أخطاء قد ارتكبت” في رواندا! وفي 2014 اعترف هوبرت فيدرين Védrine، الذي كان يشغل خلال قيام المجازر في رواندا، منصب الأمين العام للرئاسة الفرنسية، بأن أسلحة فرنسية أرسلت للقوى الرواندية التي قامت بالإبادة الجماعية بدعوى مقاومة الجبهة المعادية. وهذه الشهادة تناقضت مع تصريحات إدوارد بلدور Balladur قبل 15 سنة… علما أن هذا الأخير كان يرأس الحكومة الفرنسية خلال الفترة 1993-1995!
وفي جوان 2017 رفع الستار على وثائق فرنسية كانت مصنّفة سرية تثبت تورط فرنسا في تسليح الروانديين الذين قاموا بالإبادة. وفي ربيع 2018 نشرت صحيفة لوموند مقالات موثقة يتضح من خلالها الدعم المباشر للحكومة الفرنسية لمنفذي المجازر الجماعية قبل وأثناء وبعد عملية الإبادة. كما كانت لوموند قد نشرت في خريف 2017 مقالا تشير فيه إلى أن وزيرة الخارجية الرواندية لويز موشيكيوابو Mushikiwabo تحثّ فرنسا بقوة على الاعتراف بتورطها في عملية الإبادة. وتجدر الإشارة إلى أن أسرة هذه الوزيرة أبيدت عن آخرها عام 1994، وقد نجت لويز لأنها كانت آنذاك طالبة جامعية في الخارج.

علاقة الإبادة بالفرانكوفونية

من المعلوم أن رواندا بلد إفريقي فقير من دون ثروات طبيعية نال استقلاله عام 1962 بعد أن كان مستعمرة بلجيكية ناطقة بالفرنسية. تفصل رواندا جغرافيًا المستعمرات البريطانية في إفريقيا عن المستعمرات الفرنسية. ولذلك عمل الساسة الفرنسيون في ذلك الوقت على توطيد العلاقة مع هذا البلد لجرّه إلى “إفريقيا الفرنسية” وإبعاده عن “المعسكر البريطاني”. ومن هؤلاء الساسة من رأى هذه المسألة قضية مصيرية لفرنسا في المنطقة.
كانت “صقور الفرانكفونية” في الرئاسة الفرنسية عام 1994 المحيطة بالرئيس ميتران ترى ضرورة الحد من توسع “أرض التوتسي” Tutsi land… و”التوتسي” قبائل منتشرة بوجه خاصة في رواندا وبورندي وأيضا في أوغندا والكونغو وتنزانيا، تتهمهم فرنسا ضمنيا بأنهم مدفوعون من طرف بريطانيا وأمريكا ضد “المربع الفرنسي” في إفريقيا.
ولذا كانت فرنسا تقدم الدعم بكرم كبير للجناح الفرانكفوني في رواندا خلال المرحلة التي سبقت المجزرة لتكون له الغلبة على الجناح الأنكلوسكسوني. وقد أدى هذا الصراع إلى عملية الإبادة الجماعية التي تطاحن فيها الجناحان في قالب حرب أهلية عرقية.
أما قائد ضحايا المجزرة آنذاك الذي درس بالولايات المتحدة، فهو بول كاغامي Kagame رئيس رواندا منذ 2000 حتى هذه الساعة. وكان قبلها نائبا لرئيس البلاد من 1994 إلى 2000. ويعتبر الروانديون كاغامي منقذ البلاد بعد عملية الإبادة ومهندس المصالحة بين المتناحرين. وليس هذا فحسب بل إنه يسوس البلاد بحكمة ليخرجها بخطى ثابتة من التخلف!!
وما يثبت حنكته أن رواندا تُعتَبر سابع دولة في العالم في باب جودة التسيير، وأنها توصف الآن بـ”سنغافورة إفريقيا” وبـ “المعجزة الاقتصادية” إذ يبلغ معدل نموها السنوي منذ بداية القرن 7%؛ وقد انخفض معدل الفقر خلال العقدين الماضيين بنسبة 25% . ومع ذلك فإن نصف سكان رواندا ولدوا بعد الإبادة الجماعية!

رواندا والفرانكفونية؟

انعقد خلال يومي 11-12 أكتوبر الجاري في أرمينيا مؤتمر “المنظمة العالمية للفرانكفونية” السابع عشر، وحضره عديد الرؤساء منهم الفرنسي وكذا التونسي الذي انتشى بمديح ماكرون لشخصه وسياسته الرشيدة. وما استغربه المتتبعون ليس هذا المديح بل الأغرب أن ينتخب المؤتمر لويز موشيكيوابو وزيرة الخارجية الرواندية منذ 9 سنوات في حكومة بول كاغامي على رأس المنظمة… وهذا بدعم قوي من الرئيس ماكرون شخصيا!!
وكان الرئيس ماكرون قد صرح في جويلية الماضي قائلا: “إن إعادة رواندا إلى أحضان الفرانكفونية عملية مجازفة “لأنه كان حريصا على ذلك لتحقيق حلم أسلافه، لكنه لم يكن واثقا بقبول رواندا ولا بفعالية دورها في خدمة الفرانكفونية!”.
وما يجعل ماكرون غير مطمئن أن رواندا التي كانت الفرنسية لغة رسمية فيها قد قررت -كرد فعل عن عدم اعتراف فرنسا بجريمتها حيال الإبادة- قطع علاقاتها الدبلوماسية خلال سنوات مع فرنسا. ثم إن رواندا كفّت عن تدريس اللغة الفرنسية في مدارسها واستبدلتها بالأنكليزية عام 2003 واتخذتها لغة رسمية في البلاد! وفي عام 2010 أصبحت الأنكليزية لغة التعليم الوحيدة في المدرسة بينما كانت الفرنسية تحتل المرتبة الأولى في التدريس، وبعد ذلك عُدّل القرار بشكل طفيف.
ورغم ذلك تقول لويز التي أصبحت على رأس الفرانكفونية إن لا تناقض في هذا الوضع، وأن القرار اتخذ لأن “الأنكليزية هي لغة التكنولوجيا والبحث وشبكات التواصل الاجتماعي”.

إحصائيات الفرانكفونية

يرى حرّاس الفرانكفونية أن اللغة الفرنسية تحتل الآن المرتبة الخامسة في العالم (بعد الصينية والأنكليزية والإسبانية والعربية) من حيث عدد الناطقين بها. ويؤكدون أن مستقبلها سيكون في إفريقيا لأن هذه القارة يتزايد عدد سكانها بسرعة، وسيفوق عدد الناطقين بالفرنسية في إفريقيا عدد الفرانكفونيين في بقية العالم.
وتشير أرقام هؤلاء إلى أن المغرب العربي الكبير فضاء فرانكفوني يبلغ عد الناطقين بالفرنسية فيه يوميا 52% في تونس و35% في المغرب و33% في الجزائر. ونحن نستغرب في مصداقية هذه الأرقام. وهم يتأسفون على كون هذه النسبة لا تتجاوز 17% في مالي والنيجر وتشاد، وهي دون 33% في السنغال وساحل العاج، ومحصورة بين 50% و60% في دولتي الكونغو.
وبطبيعة الحال فالفرانكفونية تتمنى أن يرافق التوجه الفرانكفوني لتلك البلدان بعض التقدم، لكن ذلك لم يحدث عكس ما جرى في رواندا، فصاروا يهتمون بالكمّ بدل الكيف. فأي مكسب أحرزه الأفارقة من هذا التوجه؟ وستكون المصيبة أعظم إن بلغت نسبة الفرانكفونيين الأفارقة في منتصف هذا القرن 85 % من مجمل الفرانكفونيين في العالم… هذا ما تتوقعه المنظمة.
بعد انتخاب لويز على رأس منظمة الفرانكفونية صرح ماكرون أن “هذه المعركة من أجل الفرنسية هي معركة من أجل التربية بالفرنسية، إنها معركة ضد الظلامية لأن تعلم الفرنسية هو الذي يعلمنا القيم التي ترافقها”. ولا ندري ما إذا كان ماكرون يعتبر “القيم” التي أبادت عام 1994 مليون رواندي في ظرف 3 أشهر من تلك القيم المرافقة للفرنسية!!

مقالات ذات صلة