-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

الفوضى المنظمة في مصر

الفوضى المنظمة في مصر

كنت هممت بتخصيص افتتاحية البصائر لهذا الأسبوع، لتلوين البقاع الحمراء في خارطة الوطن العربي الجريح. فقد كانت تلوح لي في هذه الخارطة، رقع تغري بالكتابة مثل الدم المراق في العراق بين المتشاكسين من الإخوة والرفاق، كما كنت أهُّم بالحديث عن الصدام الدموي الدائر بين الجيش الحرّ وجيش النظام، والذي يودي في كلّ يوم بالعديد من الضحايا، والمشردين الذين يعانون شرّ الانتقام.

ولا ننسى الاغتيالات السياسية، وصراعات المجموعات الإيديولوجية، التي تُزرع باسم الثورية والسلفية، الإرهاب، والتبلطجه في كلّ من تونس وليبيا.

كان هذا هاجس لإيقاظ الضمير العربي وتوعيته بالمخاطر المحدقة، وإعداده لتفادي الوقوع في فخاخ المتربصين بالمنطقة، لكنّ مصر الكنانة، وجماهيرها المهانة باسم الفوضى المنظمة الجبانة، أبَت إلاّ أن تستأثر بالمشهد الدامي، وتقدم للعالم المزيد من الفصل الدامي.

ويا لله لمصر! فقد كانت قبلة العرب والمسلمين في زرع الحضارة، وحسن العبارة، وعذوبة القيثارة، والتحكم في كلّ أنواع المهارة. فماذا دهى مصر، حتى مسّها طائف من الشيطان التعيس، وأعانها عليه مكر من الفريق السيسي، فعكّر صفو استقرارها، وسطا على إرادة ثوارها، وقلب نظام أحرارها.

تا لله إنّنا لفي حيرة من أمر مصر، وهي تنزف دما، وتنبض ألما باسم الفوضى المنظمة، وباسم القانون والجماهير المجندة، على أنغام الفنون، وتكميم الأفواه، واعتقال الأبرياء لمجرّد الظنون، ونزق من الجنون.

لقد عطلوا العمل بالدستور استجابة لمطالب الجمهور وأيّ جمهور، وعزلوا الرئيس المنتخب، بكلّ شفافية وديمقراطية، تحت طائلة الخيانة، والاستجابة  للعمل المأجور وتلبية للقانون الخارجي المسطور.

كنا نحسب أن الجيش المصري، شأنه في ذلك، شأن كلّ جيوش العالم المتحضرة، يحمي ولا يحكم، ويسالم شعبه ولا يهجم، ويستمع لكل أصوات مواطنيه، القبطي منه والمسلم، فلماذا، أصيب الجيش المصري بالحول، وتحوّل نظامه إلى خبل، فأتى كلّ أنواع التعسف، والقتل، والدجل. فإذا كانت الاستجابة للجماهير الشعبية هي منبع حكمته، فأين هو من جماهير رابعة العدوية؟ أليست تعد بالملايين، أم أنه يكيل بمكيالين، ويطبق على المعتصمين في رابعة العدوية، قول الشاعر القديم:

لا أبالي بجمعهــم        كل جمع مؤنــث

ويقول الجنرال عبد الفتاح السيسي، إنّه يستلهم شرعيته من الجماهير الشعبية التي دعاها إلى التظاهر، وإن هذا والله لمن المضحكات وإن كان ضحكا كالبكاء.

فمتى كان وزير الدفاع في أي بلد، وتحت سلطة أيّ قانون، يدعو الشعب إلى التظاهر ليستلهم منه الشرعية؟ ولماذا لم يستلهم هذه الشرعية، من جماهير ساحات رابعة العدوية؟

ثم أين هي الحكومة المعينة، باسم الانقلاب، لماذا وقع تجاوزها، أكانت لها شرعية الانقلاب؟ أم أن وزير الدفاع نفسه، ينزع عنها الشرعية، ليلبسها إلى الجيش قائد الانقلاب؟ وما موقف حكومة الانقلاب هذه، مما يحاك باسمها؟ وأين علماء مصر، وحكماؤها، وفقهاؤها، وزعماؤها، وأدباؤها من هذه الفوضى المنظمة التي سفكت الدماء، وبعثرت الأشلاء، وقتلت النساء، والأطفال الأبرياء؟

فأشلاء مَن هذه التي تتناثر على أرض مصر؟ ودماء مَن هذه التي تراق على أديم مصر؟ أليست أشلاء، ودماء الجماهير المصرية التي يستوحي الجنرال السيسي شرعيته من اعتصامها، وتظاهرها؟

لقد كنا نظن، وبعض الظن ليس بإثم، أن عقلاء مصر، وحكماءها، وعلماءها، سوف يقفون درعا واقيا، ضدّ تهور الجيش، فيحولوا دونه ودون قتل شعبه، ويعملون على توعية الجميع بعدم تجاوز الخط الأحمر، الذي هو القتل، والتنكيل بأبناء الشعب، ولا ذنب لهم، إلا أنهم خرجوا يطلبون احترام الإرادة الشعبية، والخضوع لأوامر الصناديق الديمقراطية، لكن ما راعنا هو أن الجميع ضعف واستكان، فكانت هذه المجازر التي هي وصمة عار في جبين المصريين من كل الأمصار، لقد فتح الجيش المصري على نفسه، جبهة دموية يصعب تضميدها، وفتنة شعبية يصعب إخمادها وتحييدها. 

ولطالما نادينا، حتى بحّت أصواتنا، وكلّت أقلامنا، بأنْ حذار من الشرارة الأولى، والطلقة الأولى، والخطيئة الأولى، فإن تلك هي بداية الحرب، وبداية النار، وبداية المعاصي.

فهل كنا ننفخ في رماد، حينما دعونا إلى التعقل، والاحتكام إلى مصلحة مصر؟ إنّ من المضحكات حقا، ما ترفعه سلطات الانقلاب من شعارات مضحكات مثل قولهم إنّ مرسي يحاكم على أخطاء ارتكبها خلال سنة من الحكم، وإن من أخطائه العمالة والتخابر مع حركة حماس الفلسطينية، وإن من جرائمه أنه هرب من سجن النظام البائد أثناء الثورة على ذلك النظام.

فيا فقهاء القانون! ويا دعاة الحقوق! ويا حماة الشعوب! ويا أنصار الديمقراطية تعالوا، وافتحوا أبصارنا، وعقولنا على هذا الذي يحدث في مصر! وهذه التبريرات التي يتعلل بها حكام الانقلاب في مصر.

إنّ الزعم بأنّ الشعب هو مصدر التشريع يذكرني بمقولة لطيفة لعالم الجزائر الشيخ محمد البشير الإبراهيمي رحمه الله حين قال: ومتى كانت بوزريعة مصدرا للشريعة؟.

كما أن إقدام وزير الدفاع المصري على قتل شعبه باسم الشرعية، يذكرني بالبيت القائل:

قد أصبنا بأميــر         كبر الله وسبّـح

فهو كالجزار فيـنا        يذكر الله ويذبـح

وبعد! ماذا بعد أن وقع الفأس في الرأس؟ وهو ما حذرنا منه، وأصيب الشعب المصري، ومعه الشعب العربي المسلم بالإحباط، والبأس واليأس؟ وهو ما سيكون له عواقب وخيمة. هل سنستسلم للمغامرة، وهل ندع المغامرين ينفذون المؤامرة الخفية والظاهرة فيخربوا بأيدي أبناء مصر معالم المنصورة، والإسكندرية والقاهرة؟

إننا ندعو أحرار مصر، إلى دفن موتاهم، وإسعاف جرحاهم، ثم ينهضون للبناء. ونعتقد أن الحل، ولا حل غيره، يكمن في إعادة الشرعية، وعودة الرئيس إلى رئاسة الجمهورية، وتكوين حكومة وحدة وطنية توافقية، تضم كل الأطياف المصرية، وعفا الله عما سلف، من الخلف والسلف وحمى الله مصر من مصيرها المظلم.      

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
7
  • belamriabdelaziz

    جزاك الله خيرا على هذه المقالة الرائعة
    لكن اتتظر رد حدة حزام

  • أمين

    سيدي الفاضل,
    لم أقرأ منذ زمن بعيد نصا سياسيا أو أدبيا يرقى لهذا.
    أنت فعلا شخصية فكرية و إسلامية و أدبية فذة.
    شكرا.

  • CIRTA

    على دولة مصر أم الدنيا أن تبداء بمراجعة المنظومة الثقافية و القانونية و الدينية و الاعلامية حول مفهوم الد يمقراطية و هل مصر
    ابتكرت ديمقراطية من نوع أخر تقام بأدوات الديمقراطية الغربية و تسقط بتجمع فى ساحة التحرير و العجيب و الغريب فى الأمر كيف عاش الشعب المصري لمدة ثلاثين عام تحت حكم جائر لمبارك و أبناءه و لم يصبر بعد عام من انتخاب رئيس للبلاد بكل مقياس الشرعية و الديمقراطية التي صنعها بنفسه و اعجب بها العالم شعب غريب الأطوار

  • mohamfd

    شكرا لك دكتور على المقال القيم و اطال الله في عمرك

  • رضا

    مقال رائع سوى الخاتمة ّ عفا الله عما سلفّ

  • Mounir

    وان نارا نفخت فيها لا انارة ولكنك تنفخ في رماد

  • خالد

    السلام عليكم بارك الله فيكم علي المقالة الاكثر من رائعة