-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

القتال المشروع في القرآن الكريم

عمار طالبي
  • 14022
  • 0
القتال المشروع في القرآن الكريم
ح.م

إن القتال المشروع في القرآن الكريم إنما شُرِّع لرد العدوان ودفعه، وهذا أمرٌ واضح من قوله تعالى: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾[البقرة/190]، فهذا نص فسره ابن عطية الغرناطي بقوله: “قاتلوا من قاتلكم، وكفوا عمن كف عنكم” (المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، طبعة قطر، ص138)، وأضاف إلى هذا قوله: “ولا تعتدوا في قتالكم من لم يقاتلكم”.
وبيّن محمد أسد في ترجمته للقرآن “أن هذه الآية وما بعدها تدل على أن القتال لا يُسمح به إلا في حالة دفع العدوان، فهذا وحده ما يبرر القتال، وأريد أن أنقل لكم نصه بالإنجليزية:

« This and the following verses lay down unequivocally that only self defence (in the widest sense of the word) makes war permissible for muslims ».

وأشار إلى تفسير الطبري، وابن كثير للآيتين39-40 من السورة 22 أي سورة الحج، في قوله تعالى: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ، الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ ۗ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا﴾.

ويضيف إلى ذلك أن “المبدأ الأساسي للدفاع عن النفس هو فقط المبرر للحرب، وهو الذي ثبت في القرآن كمبدإ واضح” (المرجع نفسه، ص411)، وأشار قوله تعالى: ﴿…فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا﴾[النساء/90]، وإلى قوله تعالى: ﴿…فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ ۚ وَأُولَٰئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُّبِينًا﴾[النساء/91].

ومنهجه في تفسير القرآن أن تفسير أيِّ آية في القرآن يجب أن تُقرأ وأن تُؤوَّل في ضوء الأرضية القرآنية ومجمل مقاصدها، ومجمل السور والآيات باعتبارها كلا واحدا، وهذا ما نبه إليه أكثر من مرة ومناسبة، وهو ما نسميه بالتفسير الموضوعي.
« As i have pointed on more than one occasion, every verse of the Quran must be read and interpreted against the backround of the Quran as a whole ».

وأضيف إلى ذلك أنه يجب أن تُقرأ وتُفسَّر آيات القرآن في السياق التاريخي وظروفه وأحداثه التي نزلت فيها آياته.

إن سورة الأنفال مثلا نزلت بعد معركة بدر (السنة الثانية من الهجرة/624 ميلادي)، ومعركة بدر هي أول معركة مسلحة حاسمة بين القوة الإسلامية وقوات المشركين، وهددت قريش، عبد الله بن أُبيّ زعيم المنافقين، كتبت إليه أنه عليه أن يُخرج المسلمين والرسول صلى الله عليه وسلم من المدينة، أو يقاتلهم، لما رأوا من زيادة المؤمنين عددا وقوة، كما قال أحد الباحثين الغربيين “الإسلام قبل معركة بدر كان مجرد دين، وبعد بدر أصبح دين دولة، أو هو الدولة في ذاتها”، إن المسلمين قاوموا أغنى قبيلة عربية في الجزيرة وهي قريش، وحلفاءها، ومعنى هذا أن هذه القرية الصغيرة في عددها السكاني الذين لا يتجاوز بعض الآلاف من الأنفس، أرادت أن تؤلب عداوة الجزيرة العربية كلها ضد المسلمين للقضاء عليهم، ولكنها هُزمت شر هزيمة في بدر، سبعون من فرسان قريش وزعمائها قُتلوا، وسبعون آخرون وقعوا في الأسر، فهذا الانتصار الحاسم جعل الإسلام قوة، ذات سمعة في أنحاء الجزيرة كلها، ويقدّر له قدره.

وكان كعب بن أشرف اليهودي ذهب إلى مكة ليحرض المشركين ضد المسلمين، كما هدد بنو قريظة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكانوا ممن عاهدوه أن لا يحاربوه، ولا يعينوا عليه عدوا، ثم نقضوا عهدهم، وأمدوا المشركين بالسلاح والعدة يوم بدر، ثم اعتذروا واعترفوا بخطيئتهم، ثم عاهدوه أن لا يعودوا، إلا أنهم نكثوا عهدهم يوم الخندق، وأمدوا الأحزاب بالسلاح.

نقض عبد الله بن أبيّ ومن معه من المنافقين عهد النصرة، في أحُد، فانخذل ومن معه وكانوا ثلث الجيش، ولذلك جاءت سورة براءة، فتبرأت من هذه العهود، التي نُقضت من عدّة فرق من المشركين والمنافقين.

وأشارت الأنفال إلى ذلك ﴿الَّذِينَ عَاهَدتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ، فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ﴾، ويرى ابن عاشور أن الأظهر أن هذه الآية نزلت بعد واقعة بدر، وقبل واقعة الخندق، فلم يتقوا سوء السمعة، فإن الغدر بالعهد يعتبر من القبائح عند العرب، فأدى ذلك أن يحاربهم المسلمون نكالا لغيرهم متى ظفروا بهم في حرب يشنونها على المسلمين، أو يعينون عليهم عدوهم، ليكونوا عبرة لغيرهم، ولذلك نكَّل المسلمون بقريظة، فحوصروا وقوتلوا، وحكم عليهم سعد بن معاذ، ولذلك أمِر المسلمون بالإغلاظ عليهم، وعلى أمثالهم من ناقضي العهود، وكل من سلك مسلكهم، يشرَّد بهم في الحرب إن ظفر بهم ليكونوا عبرة ومثلا لغيرهم، فإنهم كانوا يستضعفون المسلمين، ويعتدون عليهم، والمقصود بقوله: ﴿مَّنْ خَلْفَهُمْ﴾، أي لعل من خلفهم، أي من يأتي بعدهم، يتذكرون ما حل بمن نقض العهد، معناه: الاتعاظ والاعتبار لغيرهم (ابن عاشور، التحرير والتنوير، ج9، ص141)، إذا بدرت من قوم ما بادرة غدر وخيانة فإنهم يقاوَمون، ويُردُّ عدوانهم، ودلت الأمارات والأخبار، على عدم وفائهم بالعهد بما يأتي به التجسس، فقد أمر الله أن يُردَّ إليهم عهدُهم، ومعنى الخيانة نقض العهد، ويترتب على ذلك نبذ هذا العهد، لأن شؤون المعاملات السياسية والحربية، لا يُنتظر فيها تحقق وقوعها، وإلا تعرض المسلمون للخطر، أو التورط في غفلة وضياع المصلحة، فسياسة الأمة لا تدار بما يدار به القضاء في الحقوق، إذا فاتت كانت بليتها على واحد، وأمكن تدارك ما فات، أما مصالح الأمة، إذا فاتت فإن عدوها يتمكن منها، ولذلك علق نبذ العهد بتوقع خيانة المعاهدين من الأعداء، ولخصت الآية هذا كله في قوله تعالى: ﴿وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَىٰ سَوَاءٍ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ﴾ [الأنفال/58].

وسورة التوبة نزلت في ذي القعدة سنة 9 من الهجرة، وبعضها في رجب سنة 9 هجرية، ومحتوى السورة متعلقٌ بالأحداث التي أعقبت معاهدة الحديبية في السنة السادسة من الهجرة: 6 هـ/ 628.

ويشير السياق التاريخي إلى وجود واجهتين أمام المسلمين؛ واجهة العرب وقبائلها من جهة، وواجهة الإمبراطورية البيزنطية على حدود شمال الجزيرة في الشام، وأهم حدث هو نقض قريش لمعاهدة الحديبية، بعدوان قبيلة بني بكر حلفاء قريش على قبيلة خزاعة حلفاء المسلمين، ويذكر ابن عاشور أنه: “يرى المحققون من مؤرخينا أن قتال المسلمين للمشركين إنما كان أوله دفاعا لأذى المشركين لضعفاء المسلمين، والتضييق عليهم حيثما حلوا، فتلك هي الفتنة التي أشار إليها القرآن، كما في قوله تعالى: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ۚ فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ [الأنفال/39]، أي “فإن يعودوا فقاتلوهم” (ابن عاشور، التحرير والتنوير، ج9، ص99)، فإذا انتهت الفتنة انتهى القتال لتحقُّق هدفه، وهو انتهاء ما كانوا يفتنون به المسلمين، والبراءة إنما كانت من المشركين الذين نقضوا العهد، ولا يشمل ذلك الذين لم ينقضوا العهد. (الرازي، ج8، ص232).

ولما خرج المسلمون إلى تبوك، وتخلف المنافقون وبثوا الإشاعة أن المسلمين سيُهزَمون، أخذ المشركون ينقضون العهد، لم يترك المسلمون الفرصة فبادروا بمهاجمة قريش في مكة وفتحوها سنة 8 هـ/ 629.

وعند رجوعه من تبوك إلى المدينة، أخذت الوفود من مختلف القبائل تفد إلى المدينة من أنحاء كثيرة، من الجزيرة العربية، تروي بعض الروايات أنه وفد سبعون وفدا من مختلف القبائل، رؤساء العشائر، وأمراء، وقد أشارت سورة النصر إلى ذلك: ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ، وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا، فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ ۚ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا﴾.

أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم يرسل الوفود إلى مختلف أرجاء الجزيرة، وإلى حدود الإمبراطورية البيزنطية لدعوة الناس إلى الإسلام، فقُتل 15 عضوا من هذه الوفود، ولم يسلم إلا كعب بن عمير الغفاري، وكان هذا قبل فتح مكة، وهذه القبائل على حدود شمال الجزيرة كان أغلبها يدين بالمسيحية وهم عرب، وفي الوقت نفسه بعث الرسول صلى الله عليه وسلم الحارث بن عمير إلى شرحبيل بن عمرو أمير بصرى ليبلِّغه دعوة الإسلام، وكان على ولاء لبيزنطا، فما كان منه إلا أن قتله، في مثل هذه الظروف أعدّ النبي صلى الله عليه وسلم جيشا قويا قوامه ثلاثة آلاف مجاهد إلى حدود سوريا في جمادى الأولى سنة 8 هـ/ 629، وذلك ليؤمِّن جهة المسلمين من أي عدوان آخر، ولما وصل الجيش إلى معان جاءته الأخبار أن شرحبيل أخذ يتقدّم نحوهم مع مائة ألف مقاتل مع عدَّتهم القوية، كما جاءت الأخبار أن قيصر روما حضر بنفسه إلى حمص، وأعدّ أخوه ثيادور Theodore جيشا آخر قوامه ثلاثة آلاف، وذلك كله في مواجهة ثلاثة آلاف من المسلمين، فوصل شرحبيل مع جيشه إلى مؤتة، فهزم جيشَ البيزنطيين وفاجأ ذلك العرب، ودخل عددٌ كبير من القبائل في هذه الحدود المقيمين في سوريا في الإسلام، وكذلك قبائل أخرى في حدود العراق ممن كان يوالي كسرى، اعتنقوا الإسلام مثل قبيلة سُليم، وغطفان، وذبيان، وفزارة، واعتنق الإسلامَ صاحب منطقة صُعان، أحد قادة عساكر الجيش البيزنطي فروة، وهو فروة بن عمرو الجذامي (انظر سيرة ابن هشام، ج2، ص 515 و529، وابن سعد، ج2، ص165-168، الطبري، التاريخ، ج3، ص100-111).

ولما سمع به الملك، وكان عاملَه على مُعان، ورفض طلبه للرجوع عن الإسلام، قتله.

واستثنت سورة براءة، الذين لم ينقضوا عهدهم ﴿إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَىٰ مُدَّتِهِمْ…﴾ [التوبة/4]، فهذا الفريق وأمثاله من المشركين باقون على حرمة عهدهم، وعلى السلم معهم لأنهم وفّوا بعهدهم على أتمّ وجه، فلم يكيدوا للمسلمين بكيد، ولا ظاهروا عليهم عدوا لا سرا ولا جهرا، فهؤلاء أمر المسلمون أن لا ينقضوا عهدهم إلى المدة التي عوهدوا عليها، وفهم من هذا أن الذين أمر الله بالبراءة منهم هم بخلاف هؤلاء، فهم قومٌ نقضوا ما عاهدوا عليه، فكادوا وغدروا سرا أو ظاهرا، وأمدوا العدو بالمدد والجوسسة، إخلالا بالعهد، ومن هؤلاء قريظة الذين أمدّوا المشركين غير ما مرة بالسلاح والعدة، وبنو بكر الذين اعتدوا على خزاعة، وهي قبيلة في حلف مع المسلمين. (ابن عاشور، التحرير والتنوير، ج10، ص20).

وإثر العدوان المتكرر على المسلمين جاء عمرو بن سالم الخزاعي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنشد:

لا همّ أني ناشد محمدا حلف أبينا وأبيك الأتلدا

إن قريشا أخلفوا الموعدا ونقضوا ذمامك المؤكدا

هم بيَّتونا بالحطيم هجدا وقتلونا ركعا وسجدا

فانصر هداك الله نصرا أبدا

فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: “لا نُصِرتُ إن لم أنصركم”، وفي رواية “نصرت يا عمرو بن سالم”، ولذلك ورد القرآن بحث المسلمين على قتال هؤلاء الذين نكثوا العهد، فقال الله تعالى: ﴿أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ..﴾ [التوبة/13]، قال ابن عباس، والسدّي، والكلبي: نزلت في كفار قريش، نكثوا إيمانهم بعد عهد الحديبية، وأعانوا بني بكر على خزاعة، كما أنهم همّوا بإخراج الرسول من المدينة، وهم الذين بدأوا بالقتال يوم بدر، ولذلك نزل قوله تعالى: ﴿أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ۚ أَتَخْشَوْنَهُمْ ۚ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾[التوبة/13].

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!