-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

الكلام في الخواء

عمار يزلي
  • 1330
  • 0
الكلام في الخواء

لست أدري لماذا نثرثر كثيرا ونعمل قليلا! ونثرثر في الهاتف أحيانا أكثر من مما نثرثره في الهواء الطلق؟ لاسيما النساء! نحن معاشر الرجال أيضا صرنا أكثر من معاشر النساء! ربما لأننا نعاشر النساء حتى من لا يمكن معاشرتهن! فمن عاشر قوما أربعين يوما صار منهم ونحن قد صرنا “منهن”! الرجل لم يعد عنده “الكلمة”! والرجل يكذب! هذا الشيء كان يقال عن المرأة، لأن سلاح المرأة هو الكذب والبكاء، والحنث واللف والدوران! هذا لأن المرأة لضعفها، تتغلب عن هذا الضعف بالاستقواء بأساليب أخرى مراوغة! لكن نحن “الرجال”، صرنا مثل ربات الحجال! نثرثر ونكذب ونوعد فنخلف، ونراوغ ونلف وندور!

عودة للهاتف!.. فينا من إذا بدأ، لا ينتهي والكلام في لاشي، أحيانا ليس كلاما أصلا: أسئلة وأجوبة وأجوبة على أسئلة سأل عنها الأخر فأجاب عنها بالنيابة عنه: كي راك؟ لاباس؟ بخير؟ غاية؟ صافا؟ بيان؟ مطرّح؟ أنتيك؟ (وكلها تعني نفس الشيء وتسأل عن نفس الموضوع ) ليشرع في موجة من أسئلة ثانية (بالمقابل يكون الطرف الآخر قد طرح نفس الأسئلة أو مثلها ويزيد عليها قليلا أو كثيرا): واش راهم الصغار؟ العائلة؟ الذراري؟ كانش قراية؟ كانش خدمة؟ كانش كونجي؟ كانش جديد؟ أفيرات؟ كي راه الحاج؟ الشايب؟ الشيباني؟ والحاجة؟ الشيبانية؟..خوك؟..صافا؟..بخير؟ ..قاع بخير؟ لاصانتي؟ بيان؟..(..وعودة إلى الأسئلة في صيغة جمع المذكر والمؤنث السالم والمريض..)..
هذا المدخل، ضروري، كالمقدمة الطلالية في القصيدة الجاهلية والتلفون يعد كل هذه اللحظات بالدقيقة والثانية والدنانير تذهب كالسيل لجيوب المستثمرين في الهدرة!..فالهاتف المحمول أو الفيكس، على السواء وعلى السوء، لا يميزان بين الغث والسمين والذين صنعوه، إنما صنعوه وعمموه لبيع الوقت بفلوس. أولا يقول المثل الإنجليزي Time is money ؟..ويقول المثل العربي: الوقت من ذهب؟ (ربما فهمناه من فعل “ذهب يذهب” أي ضاع ولهذا فنحن نعمل على تضييع الوقت وقتله ..بفلوس!)
إحدى السيدات اللواتي أعرفهن، وهي ثرثارة على الهواء و”طرطارة” على الهاتف، قالت لي مرة عندما نبهتها إلى أن”كونتور” الهاتف لديك لا يجري، بل يطير! وبأن الفاتورة ستأتي أطول من فيلم مكسيكسي من حيث الكيلومترات!). كان هذا أيام الهاتف الثابت فقط، أما اليوم مع الهاتف المحمول وغلاء تسعيرة الوحدة الواحدة..فلا حول ولا وقوة إلا بالله! والمرأة أعرفها ومازالت “تطرطر” سواء في المحمول أو الثابت وعلى حساب فاتورة الأكل والشرب! تعرفون بماذا أجابتني؟! ـ وكانت ربما على حق ـ قالت لي: أفضل أن أعطي الفلوس للبريد والمواصلات على أن أعطيها للطبيب..دعني أتكلم وأريح أعصابي.. خليني نفرغ قلبي!
المسكينة، عندما تأخذ الهاتف، تجلس على كرسي وثير، فلا يمكنها أن تجلس على أي “بنك” (أو طريزور)..لأن المسألة مسألة ساعات: تبدأ الحديث بالسؤال عن صحة الآباء والأجداد والفراعنة الشداد وثمود وأصحاب الأوتاد وقوم عاد،..من بعد “عاد توصل” للعصر  الجاهلي ثم الإسلامي الأول والوسيط، ثم العصر الموحدي إلى غاية نهاية العهدة الرابعة! تهدر حتى في المستقبل!..تسأل عن الجميع، حتى من لا تعرفهم.. حتى جارات الجارة وما جرت العادة من جار ومجرور! مرة، سمعتها تقول لامرأة على الطرف الأخر: كي راها هاذيك..كي يسموها.. بعدة؟ هذيك اللي قلت لي عليها تلاقيتيها فالطرولي؟ راها بخير؟. كي راهم أولادها؟ (الخلقة، لم يكن عندها لا أولاد ولا بنات ولا حتى زوج..لأنها حسبما فهمت من إجابة الأخرى، كانت شابا وليس شابة).
عندما بدأت أفهم سبب هذا الكلام في الخواء بفلوس، أو ببلاش على حد سواء، من خلال جواب السيدة، فهمت أن الكلام الكثير والثرثرة الزائدة عن اللزوم هي بالضبط وظيفة “الكوكوطا”! نحن نقوم بنفس العمل! نحن نغلي، ونطبخ، نزبد ونرعد، نفيض ونسخن ونثور داخليا، ولولا “الصفارة” والتصفير، لكان الانفجار والتفجير! إننا نتكلم كثيرا حتى بدفع الفلوس، مقابل ألا نسقط ونمرض ونهوي طريحي الفراش والعقل! فالكلام الفارغ في الفراغ، هو بسبب فراغ الكلام! فحين لا ينفع دواء لداء طال أمده ولا طبيب يداوي ولا دواء يطيب، نسعى إلى إفراغ حمولتنا من الزعاف والرعاف وقلة الأكتاف وهوان الوضع وبؤس الحال وذل الإنسان وحقرة البيبان!. وهذا حتى لا يصل بنا الأمر إلى أن ندخل في مرحلة الخطورة، عندما يشرع الإنسان في تكليم نفسه بنفسه والهدرة بمفرده، في البيت وفي الشارع! هذه المرحلة التي وصل إليها الكثير منا! فكثيرا ما نرى أناسا يمشون في الشوارع ويتكلمون لوحدهم مع أنفسهم! البعض منهم يسب ويلعن والبعض منهم يهمهم وينقرش وأحسنهم حظا يغني ويدندن! لكن الأسوأ  حظا منهم هو من صار يكلم الآخرين يراهم ولا نراهم! نقول عنهم: مجانين! وعليه، فالبلد الذي يتكلم فيها الناس في الهاتف بفلوس وبدون حاجة وبهذا الحجم، فهذا مؤشر على أن البلد ليس بخير وأن “صفارة” الكيكوطا”، ورغم إنها تصفر وليست مغلقة، إلا أن للكيكوطا وقت وحد أقصى لا يجب أن يطول وإلا فالانفجار قادم لا محالة سواء صفرت الصفارة أو زاد الحكم من الوقت الإضافي ككفارة!.. أعتقد أننا نحن في هذا البلد “الآمن المطمئن” الذي لم يأمن لا من خوف ولا من جوع، قد شرعنا في اللعب في الوقت الضائع.. والصفارة على أشدها! ولم نقدم بعد على إطفاء النار من تحت الكوكوطا المتزايدة في “الطبخ” والهيجان والفوران، والثوران والغليان الداخلي.
نتكلم كثيرا لنرتاح قليلا، أو كما يبدو لنا ذلك! لأن ذلك في الواقع لا يريح بل يزيد نكدا على نقد!
كلام في كلام..والكونتور يدور..وعندما تأتي الفاتورة، تكون الزوجة أول من يسارع إلى الشكوى..والاحتجاج..حتى على البريد: علاه.؟. أحنا عندنا شركة؟..5 ملايين.؟. علاه..البيت الأبيض؟..أوباما وماراهش يدفع هذه الحسبة..تدفعها حسيبة؟..السيسي وما يخلص 5 ملايين في التريمستر..غاية.. (السيسي، لا يخلص هذه الحسبة ولا غيرها..لكن يخلّصها غاليا حين تأتيه الفاتورة من السماء..)! 
أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!