الرأي

“المجاهد” بيير شولي

عقد في الفترة من 9 إلى 12 سبتمبر من سنة 1989 ملتقى دولي في جامعة الأمير عبد القادر بقسنطينة بالاشتراك مع المعهد العالمي للفكر الإسلامي، وكان موضوع ذلك الملتقى هو “قضايا المنهجية في الفكر الإسلامي”، وقد حضره مجموعة من الأساتذة المشهود لهم بسعة العلم، وعمق التجربة، كل في ميدانه ومجاله.. وكان من بين أولئك الأساتذة الدكتور محمد عمارة من جمهورية مصر العربية الشقيقة.

كان الموضوع الذي تناوله الدكتور محمد عمارة لافتا للأنظار، منبّها للأفكار، حتى لا تختلط الأمور، ولا تتشابه القضايا، ولا تلتبس السبل، وهذا الموضوع كما سمّاه الدكتور هو “منهج في التعامل مع المصطلحات”.

ولا شك في أن الذي دعا الدكتور إلى تناول هذا الموضوع هو ما يثيره الاشتراك اللفظي من بلبلة في أفكار الناس، وضباب في رؤاهم، واضطراب في عقولهم، يستغل في ذلك كلّه ذوو الأغراض السافلة، لتشويه الحقائق، وتحريف الأمور، وتضليل الناس، ولهذا نهى الله – عز وجل – المؤمنين عن استعمال كلمة “راعِنا” في مخاطبة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال ـ عز وجل ـ : “يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا، وقولوا انظرنا…”.

فكلمة “راعنا” لا شية فيها عندنا، ولكنها عند اليهود ذات دلالة، سيئة، خبيثة، حيث “كانوا يقولونها للنبي – صلى الله عليه وسلم – يلوون ألسنتهم بها، يقصدون سبّه ونسبته إلى الرعونة”. (التفسير الميسر، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف، ص16).

لقد نبّه الدكتور عمارة إلى المقولة الجارية على الألسنة والأقلام وهي “لا مشاحة في الاصطلاح”، المقصود منها »أنه لا حرج على أي باحث أو كاتب أو عالم في أن يستخدم المصطلح، وبصرف النظر عن البيئة الحضارية، أو الإطار الفكري، أو الملابسات المعرفية أو الفلسفة العقدية التي ولد ونشأ فيها وشاع فيها… ولكنها تحتاج إلى ضبط لمفهومها حتى لا يشيع منها الخلط، بل والخداع، كما هو حادث لها ومنها الآن..”.

ومن هذا الخلط الحادث الآن ما سجلته في مذكرتي في يوم الأربعاء 18 / 4 / 2012، حيث ذكرت مذيعة أخبار الثامنة في التلفزة أنه تمّ تكريم “المجاهد” و”المجاهدة” بيير وكلودين شولي، وذلك بمناسبة صدور كتابهما المسمى “اختيار الجزائر” )Le choix de l’Algérie (، وهو – كما فهمت – سرد لحياتهما وذكرياتهما، وما قاما به من أعمال، وما آمنا به من أفكار…

أنا لا أعرف بيير، ولا كلودين شولي، ولم أر بيير إلا مرة واحدة – عن بعد- في جمعية الجاحظية.. وقد علمت أنهما من الفرنسيين الذين ولدوا في الجزائر، وكان أكثرهم لصوص ومجرمون… ولكن بيير شولي وقلة من أمثاله بقيت فيهم بقية من إنسانية وأثارة من آدمية، فساعدوا الجزائريين في جهادهم لنصرة دينهم، واسترداد كرامتهم، واسترجاع وطنهم، والتخلص من ظلم الفرنسيين – حكومة وشعبا- ولا نبخس بيير شولي وأمثاله أشياءهم، ولهم منا الاحترام، لموقفهم الإنساني في الظاهر، وانحيازهم إلى الحق ولو كان ضد قومهم الفرنسيين ووطنهم فرنسا، ونرحب بهم في الجزائر التي اختاروا الإقامة فيها، وهم بذلك أشرف مليون مرة من أولئك “الجزائريين” الأنذال، الذين خانوا دينهم، وقومهم ووطنهم، واختاروا هم أيضا فرنسا، حيث كتب من لعنه الله والملائكة وصالح المؤمنين العميل الخائن الباشا بوعلام كتابا سماه “بلادي فرنسا” )Mon pays la France(.

إن احترامنا وتقديرنا لشولي وأمثاله لا يجيز لأحد أن يطلق عليه وصف “مجاهد”.. ولنا أن نسميه “مناضل، أو مقاوم، أو مكافح”، وأما لفظ “مجاهد” فلن يتشرف به إلا المؤمن الصادق، الذي قاتل بدءا وختاما في سبيل الله، لإعلاء كلمة الله عز وجل.

إن التساهل في هذا الأمر سيؤدي إلى أوخم العواقب، حيث ستختلط الأمور اختلاطا شديدا، فقد استفتح علي مراد كتابا له بالذي هو خير عن الذي هو شر، استفتح كتابه عن المجرم، الجاسوس، المنصر شارل دو فوكو بقوله تعالى: “فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيئين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا”.

لو اقتصر الأمر على ما جاء في نشرة الثامنة ليوم 18 / 4 / 2012 من وصف بيير شولي بـ”المجاهد” لقلنا إنها كلمة ستذهب بمجرد التفوه بها، ولو اقتصر الأمر على حشر علي مراد لمجرم، جاسوس، منصر مع “الذين أنعم الله عليهم…” لقلنا إن الشيطان استحوذ على شخص فأراه الرجيم في صورة الرحيم، وإن ذلك التصرف هو من شخص غلبت عليه شقوته، وسيطرت عليه شهوته، و”على كرشو يخلي عرشو”. و.. و.. ولكن الذي جعلني أهتمّ للأمر، ويضيق صدري، ويحزن قلبي هو أن يطلق لفظ “مجاهدة” على غير مسلمة في كتاب صدر عن وزارة المجاهدين، المؤتمنة على أعزّ ما نملك، حيث جاء في كتاب “المجتمع المسلم والجماعات الأوروبية في جزائر القرن العشرين” للأستاذة يحياوي مرابط مسعودة وصف السيدة آني ستاينير بـ”المجاهدة” في ثورة الفاتح من نوفمبر. (أنظر ج1، هامش ص 11).. ويزيد الأمر سوءا أن الوزارة لم تعلق على ذلك، وبالتالي يصبح من حق آني ستاينير أن توصي بدفنها في مربعات المجاهدين والمجاهدات، والشهداء والشهيدات…

ويزداد الأمر سوءا – كرة أخرى – أن السيدة التي “منحت” صفة “مجاهدة” لآني ستاينير أستاذة، وتدرّس التاريخ بجامعة الجزائر، وغير بعيد أن تردد على مسامع أبنائنا وبناتنا هذا الوصف، الذي قد يرددونه هم بدورهم على تلاميذهم عندما يقتعدون مقاعد التدريس.

إن الجهاد في الإسلام هو سنامه، أي أعلى ما في الإسلام، وبالتالي فهو عبادة… ولذلك لم تكن الدول الإسلامية – قبل أن تتخذ اللائكية دينا – تسمح لمواطنيها من غير المسلمين بالمشاركة في القتال لأنه “جهاد”، أي عبادة، ولا إكراه في الدين.

إن كلمة “مجاهد” تلزم صاحبها أن يكون مسلما حق الإسلام، متبنيا شريعة الإسلام، داعيا وعاملا لتطبيقها، فهل من ساعدنا في جهادنا من غير المسلمين مجاهد؟ كلا. إنه، مناضل، مكافح، مقاوم، وله أن يستفيد ماديا كما يستفيد مجاهدونا، وأن يكرم كما يكرمون، ويحترم كما يحترمون…

والأعجب من ذلك هو أننا كثيرا ما نقرأ ونسمع وصف مجاهدينا بـ”المقاومين، المكافحين، المناضلين”، فهل كان الأمير عبد القادر، وفاطمة نسومر، والمقراني، وبوعمامة، وبن بولعيد، وعميروش، ولطفي مقاومين أم مجاهدين فضلهم الله على غيرهم؟

لقد كتبت مرة كلمة (1) تعليقا على الأخ بشير بومعزة – غفر الله له – عندما استعمل بعد استقباله من طرف جاك شيراك كلمة “الإخوة الفرنسيين”، وقلت في نهاية تلك الكلمة

لنقرأ سورة الفاتحة على كلمة “الإخوة”، لأنه لم يعد لها معنى في الجزائر، وأقول اليوم: قد نقرأ سورة الفاتحة على كلمة “مجاهد”، إن استمر هذا “التخلاط”.

.

هوامش:

1) محمد الهادي الحسني: من وحي البصائر، ص36 38.

مقالات ذات صلة