-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

المخاض العسير.. البذرة التي أنبتت شجرة

أبو جرة سلطاني
  • 1056
  • 0
المخاض العسير.. البذرة التي أنبتت شجرة

من المهم أن يثور الشعب الحرّ على الغاصبين ويقاتل وينتصر، ولكن من الأهم أن يحافظ على مكاسب ثورته ويطورها وينميها ويظل مصمما على انسجامه ووحدته وقوة جبهته الداخلية والوفاء لشهدائه حتى يتمم رسالتهم؛ فمعارك ما بعد النصر، في جميع الثورات، أصعب من معارك القتال على جبهات الحرب. وضريبة بناء دولة أثقل من ضريبة هدم نظام، وهكذا كان بعد استقلال الجزائر عن فرنسا.

إخراج المحتل الفرنسي من أرض الجزائر، بعد 132 سنة من المقاومة، كان حدثا تاريخيا دوّى في أركان العالم كله. فالثورة التي اشتعلت أزيد من سبع سنوات لم يكن طرفاها متكافئين. ولكنها حققت نصرا مدويا – بعد سلسلة من حلقات المقاومة – خلفت ركاما ثقيلا استغرق مدة إزالته 60 عاما. وما زلنا نكافح لإيفاء حقّ الذين قدموا أرواحهم فداء لهذا الوطن، وهم يحلمون بتحرير الجزائر “وإقامة دولة ديمقراطية ذات سيادة في إطار المبادئ الإسلامية” كما نص عليها بيان أول نوفمبر 54.

فكيف كان المخاض؟ وكيف كان ميلاد الدولة الوطنية التي عرفت النور بعد 132 سنة من ظلام الاستدمار؟

البذرة الأولى كانت كلمة قوية زأر بها أسد من مفجّريها بقول واثق في إرادة شعبه قال:” ارموا بالثورة إلى الشارع يحتصنها الشعب”. وفجرها الأشاوس. وقرأ الشعب بيانها قراءها صحيحة. وحمل لواءها سبع سنين. واكتوى بلظاها. وسقى شجرتها بدمه. ودحر الاستدمار. واسترجع سيادته على كامل تراب الوطن دون أن يفرط في ذرة رمل واحده من التاء إلى التاء (تبسة. تلمسان. تيزي. تمنراست).

كان الثمن باهظا والكلفة ثقيلة… ولكن فرحة الاستقلال غطت على الأرواح والجراح واليتامى والأيامى… وعلى “سياسة الأرض المحروقة” وأنست الشعب مآسي خطي شال/وموريس…وصارت المحنة منحة.

لكن مخاض ال 108 يوما الفاصلة بين الإعلان عن وقف إطلاق النار(19مارس 1962) تتويجا لـ”مفاوضات إيفان”. وبين صبيحة الإعلان عن نتائج الاستفتاء حول استقلال الجزائر (يوم 05 جويلية 1962) كانت من أكثر أيام الجزائر ديناميكية وتدافعا وصرامة في مسيرة الحركة الوطنية بين “رفقاء السلاح” من جهة، ثم بينهم وبين الحكومة المؤقتة من جهة أخرى. في ظروف وطنية وإقليمية ودولية لم تكن خالصة للجزائريين وحدهم. مع أنهم قاتلوا وحدهم..

فخلال هذه الفترة الحرجة من تاريخ الجزائر اشرأبت أعناق كثيرة تلقاء بلد المليون شهيد، تبحث عن موضع قدم تمكنها من المساهمة في توجيه سياسة ما بعد الحسم العسكري. وتضع بها بصمتها على معالم دولة الاستقلال بعد اندحار فرنسا وهزيمة جيوشها.

من حسن حظ الشعب الجزائري أن الصراع الذي كان محتدما في الكواليس، وفي أكثر من نقطة توتر ساخنة، كان صراعا بين وطنيين هم صناع تاريخ الجزائر المستقلة؛ صراعا حول مصلحة عليا للوطن بروح وطنية عالية وبزخم تجربة ثورة راقية. صراعا اتسم بثلاث سمات بارزة:

– لم ينسَ المتصارعون عهد الشهداء.

– ولم يخرجوا عن روح بيان أول نوفمبر 54.

– ولم يسمحوا لأي جهة أجنبية بالتدخل في شأنهم الداخلي.

وبهذه السمات الثورية العالية تمكنوا من حسم معركة تأسيس الدولة الوطنية وتقديم دستور انتقالي تمت صياغته على عجل سنة 1963 (مقدمة وثمانية فصول و78مادة وأحكام انتقالية). كرّس في ديباجته المبادئ الاشتراكية. وأسند السلطة للشعب: “الذي يشكل طليعته الفلاحون والجماهير الكادحة والمثقفون الثوريون”. أما القضاة “فلا يخضعون إلا للقانون ولمصالح الثورة الإشتراكية” المادة: 62. وسطر ثلاث أولويات:

١- بناء الدولة الوطنية على اللامركزية الديمقراطية التي يحكمها حزب طلائعي واحد. واستبعاد النظامين الرئاسي والبرلماني.

٢- الإصلاح الزراعي والاقتصاد الوطني.

٣- مؤازرة الحركات التحررية في العالم.

لكن تركة الاحتلال البغيض كانت ثقيلة ومعقدة ومفخخة في بعض مكوناتها، لاسيما ما صار يعرف لاحقا بمخلفات الاستعمار.

كل الملفات كانت ساخنة وذات أولوية. وكان من أكثرها توهجا وحساسية إنفاذ نصوص “اتفاقية إفيان”. وملف السلاح وخرائط حقول الألغام..!! وملف الأملاك الشاغرة. وملف الحكومة المؤقتة وجيش التحرير. وملف المعمّرين والمتعاونين مع فرنسا. ومعطوبي الحرب. وملف التربية والتعليم والأمية. وتحدي إدارة دولة خلفت سياسة “الأرض المحروقة” كل شيء محترقا في أرجائها.

وكان المستعجل: بحث شكل الدولة. والعلاقة بين الداخل والخارج. وكيفية إدارة الأملاك الشاغرة. ومنظومة التربية والتعليم. وضمان الأمن والاستقرار للمواطنين وتأمين قوتهم بعد حسم معركة القتال على جميع الجبهات وضبط الحدود الشرقية والغربية وإنهاء أطماع الحالمين بالتوسع..!! وكان كل ذلك يجري في أجواء عارمة من الفرحة الشعبية بعودة الجزائر إلى عمقها الإسلامي الذي عبرت عنه أغنية ترددت فجر الاستقلال تقول:” يا محمد مبروك عليك. الجزائر رجعت ليك”.

زُرعت البذرة الأولى لميلاد الدولة الوطنية على عجل، في أرضية مستقرة، ولكنها مخلوطة بكثير من الأطماع الخارجية في ظروف إقليمية ودولية أجبرت الماسكين بزمام الحكم على تأجيل كثير من الملفات الساخنة لمنع الاقتتال الداخلي وتصفية “بقايا الدّيغولية” وإرساء قواعد الدولة أولا ثم التفرغ لمعالجة ملفات ما بعد وقف إطلاق النار.

استقلال الجزائر لم يكن خالصا للجزائريين؛ فعيون جيراننا كانت على الحدود تتطلع لاقتطاع أجزاء من جغرافيتنا المترامية الأطراف لأخذها بالحيلة إذا أعوزتها القوة، وفي العمق الإقليمي كان جمال عبد الناصر (زعيم القومية العربية وقتذاك) يعمل جاهدا لكسب صوت الثورة ليعزز به مسار القومية العربية بعد تعثر مسار الوحدة. ومن بعيد كانت يد السّوفييت تعيد ترتيب أوراق “الساحة الحمراء” لتقوية مجموعة “عدم الانحياز” بمولود ثوري جديد حضر مؤتمر باندونغ وتبنى توصياته. وأبعد منهما كانت الصين تمد يد الصداقة والتعاون..

جيش التحرير أبقى الأصبع على الزناد لفترة “حرب باردة” امتدت حتى سنة 1967، وكان محقّا في توقعاته. فأطماع الأشقاء كانت كبيرة. ونهم الأصدقاء كان أكبر؛ فتم بسرعة حلّ الحكومة المؤقتة (التي كان يرأسها السيد بن يوسف بن خدة) ويسر للسيد بن بلة الجلوس على كرسي الحكم بانتظار تسويات لازمة لم يتم حسمها إلا بانتخاب بن بلة أول رئيس للجمهورية في سبتمبر 1963 ليلعب المجلس الوطني للثورة دور الشرعية الوحيدة في البلاد على الجبهتين السياسية والعسكرية. ويفرض الخيار الاجتماعي نفسه على الدولة الفتية بثلاث مشكلات ثقيلة على نظام خارج من حرب إبادة خلفت دمارا شاملا على جميع المستويات هي:

– اللغة والهوية والمناهج التربوية.. جاء في دستور 63 المادة: 76: “يجب تحقيق تعميم اللغة العربية في أقرب وقت ممكن، في كامل أراضي الجمهورية. بيد أنه – خلافا لأحكام هذا القانون- سوف يجوز استعمال اللغة الفرنسية مؤقتا إلى جانب اللغة العربية”..!!

– الألغام وضحايا الحرب والأراضي التي كانت مغتصبة من طرف المعمرين وحقوق اللاجئين..

– الطابع الاجتماعي للدولة في وضع تفتقر فيه السلطة إلى الكادر المسيّر من البلدية إلى رئاسة الجمهورية.

ولأن العزيمة كانت وطنية صادقة فقد تم تجاوز هذه العقبات بالمتاح القليل من الموارد . ولكن الإقلاع كان مستعجلا مما اضطر قادة الرحلة الثورية إلى هبوط اضطراري في أكثر من محطة (63. و65 و71. و79. و84. و88. و92. و99. و2019). وفي كل نقطة تفصيل.

فالعطب ليس تقنيا يتم إصلاحه باستبدال “القبطان”، أو بتغيير بعض البراغي.. إنما العطب هيكليّ في تصميم الجهاز نفسه فجر الاستقلال لأسباب يطول شرحها. وهو ما يتطلب إعادة فك وتركيب للمحرك..!! ولعله في الذكرى 60 للاحتفالات المخلدة لاسترجاع السيادة الوطنية يتم تدارك هذا الخلل المنهجي (التاريخي) بروح وطنية جامعة للشمل ننطلق بعدها جميعا يدا واحدة لبناء جزائر جديدة وضع معالمَها الكبرى بيانُ أول نوفمبر.

المجد للإسلام.

والخلود للشهداء.

والبقاء للوطن.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!