الرأي
ما لا يقال

المفسدون في الجزائر

يخطئ من يعتقد أن جيل الاستقلال وصل إلى السلطة في الجزائر منذ استرجاع السيادة في 5 جويلية 1962 لغاية تصريحات وزير الخارجية الفرنسي، التي يقول فيها بالحرف الواحد: “العلاقات بين فرنسا والجزائر ستكون ربما أقل تعقيدا حين يغادر جيل الاستقلال السلطة في الجزائر”.

فلماذا هذا “الغضب السياسي” من افتراضيات برنار كوشنير بوجود “جيل الاستقلال” في السلطة؟

أعتقد أن الأحزاب السياسية والمجتمع المدني وبعض الشخصيات الوطنية وقعت في “فخّ” الحديث عن وجود جيل الاستقلال في السلطة أو أنها قامت بتأويل جديد لتصريحات كوشنير. لا أعتقد أن من يقرأ “لوجورنال دو ديمانش” الصادر يوم السبت 20 فيفري 2010، سيجد حديثا عن “جيل الثورة” ورحيله، وإنما سيجد حديثا عن جيل “الاستقلال” وبالتالي، فهل الخطأ مقصود.

 

حديث الزيارة القادمة؟!

عندما تحدث السيد محمد الشريف عباس، وزير المجاهدين، قبل زيارة الرئيس نيكولا سركوزي، عن علاقة الرئيس الفرنسي بالصهيونية (اليهودية)، أثار جدلا كبير وسط الإعلام الرسمي الفرنسي، مما استدعى تدخل الرئيس بوتفليقة، وبالتالي فالإعلام الفرنسي كان يحتاج إلى “ورقة جزائرية” للضغط في المفاوضات على الطرف الجزائري، وهو ما تحقق فعلا، فهل هذه “الموجة” من الغضب السياسي والتفسير المغلوط لـ”جيل الاستقلال” الذي أحدثته تصريحات وزير الخارجية الفرنسي تدخل في أوراق الضغط من أجل “لقاء محتمل” بين الرئيس الجزائري والرئيس الفرنسي، أو بتعبير دقيق تحديد موعد زيارة بوتفليقة إلى فرنسا، الحالتان متشابهتان ولكنهما تحملان لغزا سياسيا.

فالجزائريون الذين لم يتحركوا سياسيا ضد قانون تمجيد الاستعمار الفرنسي في الجزائر الذي صادقت عليه الجمعية الفرنسية في 23 فيفري 2005، والبرلمان الجزائري بغرفتيه لم يبادر إلى المعاملة بـ”المثل”، تحرك اليوم مثل “زوبعة في فنجان”، وتحرك قادة الأحزاب ضد كوشنير وهو يقدم مغالطة تاريخية.

 

المغالطة

قبل مفاوضات إيفيان، حضر جيل الثورة كتابا أبيض حول جرائم فرنسا بالصور، ولكن عدل عن نشره لأسباب يعرفها فقط رجال “المالغ” ولا أحد يعرف كيف اختفى هذا الكتاب الأبيض، ربما للسيد ولد قابلية بعض المعلومات بصفته رئيس “جمعية المالغ”.

المؤكد أن الكثير من الحقائق فضل المجاهدون عدم الكشف عنها، ولعل هذا هو السبب في عدم مطالبة فرنسا برحيلهم، وحتى كوشنير لا يريد ذلك، وإنما التخوف هو من جيل الاستقلال، وهو جيل لم يصل بعد إلى السلطة.

وهذا الجيل هو في طريقة إلى الرحيل، وفرنسا تريد أن يرحل معه جيل الاستقلال، وتسليم المشعل إلى جيل ما بعد الاستقلال، وهو الجيل الثالث الذي قبلته فرنسا بالنسبة للمهاجرين، وتدعو إلى تسليمه السلطة، وهو جيل لا يعرف فرنسا ولا أذنابها في الجزائر.

لقد حاول البعض أن يلغى المجاهدين بما يسمى بـ19 مارس 1962، وحاول البعض الآخر إلغاء المجاهدين وتعويضهم بما يسمى بـ(حزب فرنسا) أو (ضباط فرنسا).

والحقيقة هي أن المجاهدين تسلموا السلطة بعد الاستقلال وماتزال في أيديهم، ولكنهم ارتكبوا أخطاء بسبب عدم التفكير في بناء الإنسان، فكان كل رئيس يحاول أن يوظف الفساد لبقاء السلطة بين يديه.

فالرئيس الأسبق أحمد بن بلة وزع “الحانات” و”سيارات الأجرة” على المجاهدين ونساء الشهداء، وكانت بداية الانحراف الأولى.

أما الرئيس بومدين فقد اختار سياسة يسميها بعض المجاهدين بـ”مركزية الفساد” بحيث وزع قروضا على قيادات من المجاهدين ممن كانوا يعارضون سياسته وسوّق لخطاب سياسي جديد شعاره: “من يريد الثورة يبقى في السلطة ومن يريد الثروة عليه بمغادرتها”. وهكذا صار الكثير من المجاهدين متابعين من البنوك بسبب الضرائب بعد فشل مشاريعهم.

وجاء الرئيس الشاذلي بن جديد بمشروع جديد يسميه البعض من المجاهدين بـ”لا مركزية الفساد”، فأصبح الفساد منتشرا في معظم الولايات، وصار النهب “تطلعات المنتخبين” على جميع المستويات، ووصل الغضب الشعبي إلى درجة أن تحول إلى “موجة إرهاب” امتصتها إسفنجة التيار الإسلامي.

وأدى الإرهاب دورا مهمّا في تشجيع النهب تحت غطاء محاربة الإرهاب، وجاء العفو العام.

لكن السياسة الجديدة قامت على منطق غريب وهو “المساندة”، بحيث تم تعميم الفساد تحت هذا الشعار، فدخلنا مرحلة “دمقرطة الفساد” وصار الفساد هو العملة التي تصل بها إلى السلطة تشتري منصب النائب بالمال، وتشتري كل شيء بالمال.

ديمقراطية الفساد أخذت منحى تبييض المال المنهوب عبر العقار، والتضييف على المواطن عبر ارتفاع الأسعار، وعبر قوانين لا تحترم حقوق الإنسان، وفي مقدمتها قانون المرور الذي لا يحترم حق المواطن في الماء الصالح للشرب ويعاقبه إذا لم يغسل سيارته، ولا يوفر إشارات في الطرقات ولكنه يعاقب من لا يلتزم بهذه “الإشارات الافتراضية”. لا يوجد في قانون المرور “لون أزرق” في الطرقات، ولا الدوائر وأولوية اليسار على اليمين، ولكن القانون بالمرصاد.

فالمفسدون في الجزائر لم يطالب كوشنير برحيلهم وإنما طلب برحيل جيل لم يصل إلى السلطة.

صحيح أن أقلية من المجاهدين ضاعوا بين المجاهدين المزوّرين، ولهذا، إذا لم نقم بالفرز الحقيقي، فإن جيل الاستقلال سيرحل، لأن المجاهدين المزيّفين لايزالون يستثمرون في الفساد، وهم المفسدون في الجزائر ولكننا لا نستطيع أن نعرفهم أو نفرق بين المجاهد الحقيقي والمجاهد المزيف، مثلما لم يستطع كوشنير أن يفرق بين جيل الثورة الذي يحكم حتى الآن، وبين جيل الاستقلال الموجود خارج الحكم. 

مقالات ذات صلة