المقدّس والمرجّس!
لدى نزوله ضيفا على قناة الشّروق، صرّح أحد الروائيين الجزائريين، المعروفين بنزعتهم العدائية لكلّ ما هو “إسلاميّ”، بأنّه لا يسلّم بوجود شيء مقدّس، وذهب بعيدا ليقول بأنّه لا مقدّس إلا الجهل!.. وهي الدّعوى التي يكذّبها الاستقراء، وينسفها كون أكثر رواد الاكتشافات العلمية قديما وحديثا هم من المؤمنين والمسلّمين بالمقدّس، بغضّ النّظر عن كون هذا المقدّس حقا أم باطلا، ونحن لا تهمّنا كثيرا تصنيفات هذا الكاتب، لأنّه كما قال الإمام الشّافعيّ رحمه الله: “العلم جهل عند أهل الجهل، كما أنّ الجهل جهل عند أهل العلم”.
هذا الروائي لا يُخفي انزعاجه من إقبال الجزائريين على الكتاب الدينيّ الذي يدافع عن المقدّسات، ويتحدّث عن الواجبات والمحظورات، والعقائد والغيبيات، وقد سبق له أن كتب مقالا في جريدة الشّروق أظهر فيه تبرّمه من زيادة الإقبال على هذا النّوع من الكتب في المعارض الدولية، وحاول أن يسلّي نفسه بالترويج لنبوءة جديدة تبشّر بهزيمة قريبةٍ لهذا النّوع من الكتب أمام الرواية الأدبيّة، لكنّه، وعلى عادة قرنائه من الروائيين، لم ينس أن يخفّف من حدّة هجومه على الكتب الدينيّة، عندما استثنى لونا معيّنا منها قال بأنّه “الكتاب الدينيّ التّنويريّ الجديد المحافظ على العلاقة مع كتب التّراث الأساسية الجريئة“، وهو بهذا يريد فكرا دينيا يقبل الإلحاد ويقبل الإباحية ولا يحارب الشذوذ، بحجّة أنّها أجزاء من ثقافة المجتمعات، كما لم ينسَ هذا الرّوائي الإشادة بنوع خاصّ من القرّاء قال إنّهم الذين يقرؤون “بمتعة، بعيدا عن الإيمان والطّهرانية“، ما يعني أنّهم ليسوا من الصّنف الذي يهمّه أن يبحث عن فضيلة أو قيمة إنسانية أو حضارية، وإنّما هم من الصّنف الذي يبحث عن المتعة بعيدا عن أيّ وازع أو رادع، ولا شكّ أنّ هؤلاء سيجدون مبتغاهم في الرّوايات التي تحوم حول الأسِرّة والأجساد والشّهوات الليلية، والروايات التي تختزل المجتمع في فتاة تناضل لأجل قيادة الدراجة وتتحدّى الأعراف والتقاليد وحتى المقدّسات!. كما وصف هذا الرّوائيّ القرّاء الذين يبحث عنهم بأنّهم يقرؤون بشجاعة ونقد، ما يعني أنّهم يقرؤون ما يستحثّ الأسئلة في دواخلهم، ويدعوهم إلى التّساؤل عن كلّ شيء، بما في ذلك ما يتعلّق بالغيب غير المنظور، ولكنّ الكاتب لم يحدّثنا إن كان هؤلاء القرّاء يجدون في الروايات التي يريدها أن تهزم الكتاب الدينيّ الدّعويّ، أجوبة لتلك التّساؤلات؟ نحن نعلم أنّ تلك المسودّات لا تستطيع أن تحمل بضاعة فوق حجمها، لأنّ الهدف منها هو إيصال القارئ إلى مرحلة الشكّ التي يتصوّر في خضمّها أنْ لا مخرج من الحيرة إلا في التخلّص من سلطان الدّين ونبذ الاعتقادات الغيبيّة، والإيمان فقط بما هو مشاهد أو محسوس، وهذا هو العقار السحريّ الذي يجعل قرّاءهم يقبلون على أعمالهم الأدبيّة التي تحوم حول الأسرّة من دون إيمان ولا طهرانية!.
هذا الرّوائيّ وقرناؤه يريدون للشّباب أن يتنازلوا عن مقدّساتهم، ويزهدوا في كتب الدّين، بما فيها الكتب الفكريّة التي تزاوج بين العقل والنّقل وتجيب عن كثير من الأسئلة التي لا يجيب عنها إلا العقل المتّصالح مع الدّين، فإذا ما زهد الشّباب في هذه الكتب، رغّبوه في الروايات التي توصل العقل إلى بوتقة الشكّ والحيرة، ليعلن العقل استسلامه وتنازله عن دوره لصالح العاطفة، ومع غياب العقل والدّين وطغيان العاطفة فقط يمكن أن تروّج تلك الرّوايات التي تراوح بقرّائها بين عالم الخيال والأحلام، وعالم الأسرّة والأجساد.
هؤلاء الرّوائيون أعجز من أن يجيبوا عن الأسئلة العقلية التي شغلت الإنسان منذ وجد، ففاقد الشّيء لا يعطيه؛ وهم أعجز من أن يقدّموا للبشريّة ما قدّمه أمثال ابن تيمية والرّازي، وغيرهما من العلماء والمفكّرين، من نتاج علميّ وفكريّ يجيب عن التّساؤلات التي تحاول عقد خصومات مصطنعة بين العقل والنّقل، بين الإيمان والحياة؛ هم أعجز ما يكونون عن هذا، ولكنّه تطاول الصّغار وتشبّع الأغيار ممّن أمنوا العقوبة فأساؤوا الأدب، وروّجوا لثقافة يراد لها أن تقفز على المقدّسات، وتهزم الكتاب الدينيّ الدعويّ؛ ثقافة تراوح بين بلوغ الغاية في العزف على العواطف والإغراق في وصف الأجساد، وبين السّلاطة والصّفاقة في همز الدّين ولمز أتباعه؛ ثقافة لا تحمل أيّ قيمة إنسانية أو حضارية، وليس لها من هدف سوى السّعي الحثيث للانحطاط بهذا المجتمع إلى دركات تترفّع عنها الأنعام.
هذه هي الحقيقة التي يريد هؤلاء الروائيون التستّر عليها، خلف مسمّيات الثّقافة والإبداع، وتحت ذريعة حرية التّعبير، روائيون يريدون أن يُحجر على الدّين في المساجد، ولا يعجبهم حشر نصوصه في كل صغيرة وكبيرة، ولا يقبلون أن توزن كتاباتهم بميزان الشرع، بدعوى أنها إبداعات لا يتذوقها ولا يفهمها علماء الدين والمتديّنون!. يصفون من يطريهم بصاحب الذّوق الرّفيع والحسّ الأدبيّ العالي، ويرمون من يعترض عليهم بالانغلاق والرجعية وفقدان الذّوق والحسّ والوجدان، وربّما يتّهمونه بالتكفير ولو لم تجْرِ كلمة الكفر على لسانه ولا على قلمه، ويستعينون في ذلك بالنّصوص الشّرعية التي تحذّر من التّكفير، وهي –دون غيرها– النّصوص التي يحفظونها ويلجؤون إليها ولا يقبلون ردّها أبدا!. وربّما يخاطبون من يكشف جرأتهم على المقدّسات باستعلاء ويوردون له أسماء بعض الفلاسفة من الشّرق والغرب، ويظنّون أنّهم بذلك يثبتون أنّهم أصحاب ثقافة عابرة للقارّات، وأنّ خصمهم سيقف مشدوها أمامهم، وهذه الحيلة إنّما تدلّ في حقيقة الأمر عن مدى الضّعف الدّاخليّ الذي يعانيه هؤلاء، ما يحملهم على اصطناع نوع من الطّاووسية والنّرجسيّة لتغطية ذلك الضّعف.
نحن لا يهمّنا أن يؤمن هؤلاء الروائيون بالمقدّس أو يكفروا به، لكنّنا لا نقبل أبدا أن يتطاولوا على مقدّساتنا، في الوقت الذي يدعون فيه إلى تقديس المرجّس من الأفكار والثّقافات والنّزوات، فلهم مقدّساتهم ولنا مقدّساتنا.