الموقف السلبي من الإعجاز العلمي في القرآن والسنة
إن الإعجاز العلمي في القرآن والسنة بحر لا ساحل له كما نعلم جميعا، لأن الحديث فيه هو حديث عن تطابق وحي الله سبحانه مع بديع صنعه، إذ الكون قرآن صامت والقرآن كون ناطق، فلا يتصور عاقل إمكان تعارض وحي الله سبحانه مع صنعه.
ومما يؤثر في هذا المعنى عن الإمام عبد الحميد بن باديس رحمه الله قوله “القرآن كتاب الدهر ومعجزته الخالدة فلا يستقل بتفسيره إلا الزمن، وكذلك كلام نبينا المبيّن له، فكثير من متون الكتاب والسنة الواردة في معضلات الكون ومشكلات الاجتماع لم تفهم أسرارها إلا بتعاقب الأزمنة وظهور ما يصدقها من سنن الله في الكون . وكم فسرت لنا حوادث الزمن واكتشاف العلم من غرائب آيات القرآن ومتون الحديث وأظهرت منها للمتأخرين ما لم يظهر للمتقدمين، وأرتنا مصداق قوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم وصف القرآن “لا تنقضي عجائبه”.
وإذا فمن الطبيعي أن تتوسع مع الأيام آفاق هذا الموضوع وتزداد انفتاحا واتساعا، وذلك لما يثيره باستمرار في ذهن الإنسان من تساؤلات ملحة، يمليها التطور المذهل الذي تشهده مختلف العلوم التجريبية والكشوف العلمية المختلفة.
إن مما نعلمه جميعا أن “الإشارات” الواردة في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة المتعلقة بالكون قد غطت كل مجالات الحياة، جمادا ونباتا وحيوانا وإنسانا، ويتأكد الباحث من ذلك كله انطلاقا من مختلف كتب التفسير المتعاقبة على امتداد التاريخ الإسلامي، وكل مفسّر يودع حصيلة اجتهاده في تفسيره الذي يحمل طابع عصره، وما يميزه عن سائر العصور، وطابع بيئته وما يميزها عن سائر البيئات. ثم مطابقة ذلك كله لما توصل إليه العلماء التجريبيون في عصرنا الحاضر من اكتشافات في مختلف مجالات الكون المنظور، مما لم يكن يخطر على بال بشر منذ قرن من الزمن، وذلك بفضل اختراع الأدوات الدقيقة والوسائل المتطورة التي مكنت الإنسان من غزو الفضاء وسبر أغوار المادة، واستكناه مجاهيلها المرئية فيها وغير المرئية، بدءا بالذرة والإلكترون إلى مكونات الخلية الحية وألغاز الشفرة الوراثية المركبة والمرتبة داخل النواة بشكل معجز.
ولقد أثبت هؤلاء العلماء التجريبيون، من حيث يدرون أحيانا ومن حيث لا يدرون أحيانا كثيرة أن القرآن الكريم سبقهم إلى ذلك بقرون، مما يعزز إيمان المؤمن بأنه تنزيل من عزيز حميد ليظل معجزة خالدة تتحدى كبرياء الإنسان وغروره إلى يوم الدين.
وتجدر الإشارة هنا إلى أنه مثلما ثبت خطأ بعض المفسرين في فهم بعض الآيات القرآنية قبل أن يتوصل التطور العلمي إلى اكتشاف حقائقها وفك ألغازها، كذلك ثبت جهل معظم هؤلاء العلماء التجريبيين المعاصرين من غير المسلمين بهذه الإشارات القرآنية المطابقة مطابقة كاملة لما اكتشفوه في فضاءات الكون المنظور وفي الإنسان ذاته “سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق”. لذلك قال العلماء “إن القرآن لا يفسره إلا الزمن” إن العلماء التجريبيين المنصفين للحقيقة المتحررين من عقدة الغرور يعترفون اليوم بأن أقصى ما توصل إليه العقل البشري في مجال الاختراع إنما هو “تقليد” لصنع الله سبحانه، وأن هذا التقدم المذهل الذي حققه الإنسان في مجال الاختراع والكشوف العلمية لا يعد شيئا إذا قورن بما بثه الله سبحانه في كونه الفسيح من مخلوقات، بدءا بأبسط خلية في ذبابة أو زهرة إلى أضخم المجرات السابحة في الأفلاك العليا البعيدة عنا بما لا يكاد يتصور من ملايين السنوات الضوئية.
إن القرآن العظيم سيظل معجزا بنصه لكل العقول البشرية في كل عصر وجيل إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، إنه الخليفة الأبدي لخاتم الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، الذي نزل به على قلبه الروح الأمين ليكون بشيرا ونذيرا ورحمة للعالمين.
والقرآن الكريم يظل الرسول الحي الناطق بكل اللغات الناقلة عن لغة الوحي، المعصوم والمحفوظ من كل تحريف وتزييف.
إن ما ورد في القرآن من إشارات عامة إلى حقائق الكون وأصل الوجود وبدء الخلق لم يحدث أن تناقضت مع ما اكتشفه العلم التجريبي في مختلف مجالات الحياة، وهذا ما يعطي صبغة الديمومة والتجدد لهذه المعجزة الخالدة عبر العصور، فهو –كما أخبر عنه رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم “ّلا يخلق من كثرة الرد” وهو “لا تنقضي عجائبه” في إظهار حقائقه مع التطور البشري، تماشيا مع كل الاكتشافات التي يعترف أهلها دائما بأنهم ما يزالون يسبحون على ضفاف بحر العلم لمعرفة ما في هذا الكون من قوانين هي سنن الله في خلقه.
ومن هنا ندرك سر كثرة ورود لفظة “العلم” في القرآن، وتنوع سياقاتها، فهو تارة يطلقها على الحقائق الدينية، وتارة يطلقها على استكناه أسرار العالم المادي وما يحكم الحياة من سنن وما يتخللها من آيات شاهده على عظمة الله سبحانه.
غير أن الذي ينبغي توجيه النظر إليه هنا هو أن الاهتمام المتزايد بهذا المجال المثير، مجال الإعجاز العلمي في القرآن والسنة، يجب أن يصحبه وعي “عميق” يجعل منه حافزا على الإبداع في مختلف مجالات العلوم والمعارف لا مجرد مسايرة لمنطق العصر وتعزيز الشعور بالرضى والافتخار بسبق القرآن والسنة لمختلف الاكتشافات العلمية الحديثة، لأن ذلك يترك انطباعا في أذهان النشء بأن مجرد الإيمان الصادق بهذا القرآن المعجز والاعتزاز به يكسبه من المجد ما يعفيه من واجب الابتكار والبحث، فهذا موقف سلبي لأن العظمة في هذه الحال تظل للإسلام لا للمسلمين.